ما يهمنا هنا ـ تحديدا ـ هو أن الجاهلية لم تكن عصرا محددا من عصور التاريخ، لأنها ليست زمنا ـ إذا قبلنا بهذا التوصيف التحقيبي أو التاريخي المجزأ ـ متصلا بعضه ببعض، بل هي فترات تكونت في كل فترة طائفة “وثنية” معينة لها خصائصها وشعائرها وعباداتها الخاصة.
إن اعتبار ما قبل الإسلام “جاهلية” ينطوي على خلفية إيديولوجية قائمة على منطق الثنائيات (من الجهل إلى العلم، من الظلمات إلى النور، من الهمجية إلى الحضارة…)، وذلك لتبرير الخطاب المحمدي الجديد وشرعنته، وهو يدعونا إلى التساؤل: كيف يمكن أن تظهر حضارة جبارة بكل أنظمتها: القانونية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية… من ماض جاهل؟ كيف يمكن أن نفسر انبثاق الحضارة من اللاعقل؟ إذا كان ماض العرب “جهلا” و”ضلالة” فكيف أمكنهم أن يثوروا ثورتهم العظيمة؟ كيف أمكن لهم أن يدخلوا التاريخ إذا كان ماضيهم خارج التاريخ؟ إن هذا النوع من التحليل لا يقود ولا يفيد إلا بالقول بالمعجزة، فالمركزية الأوروبية أيضا قالت بالمعجزة لمحو أثار الحضارات الشرقية على الحضارة الأوروبية، هكذا اعتبرت الفلسفة اليونانية معجزة، حالة ينبوع أصلي وأول. فالإسلام أيضا ـ على الأقل في تأريخه وليس كدين ـ تعامل مع ماضي العرب بنفس الخلفية، إثبات المعجزة لمحو أثار العرب قبل الإسلام. ووفق هذا المنطق فأن العرب اعتبروا الجاهلية “مرحلة موحشة تافهة، ضالة مضللة، أو هي، بكلمة، جاهلية جهلاء. فعزلوها تاريخيا، أي عملوا على “تنسيقها” من وعي المرحلة التي بدأت بنشوء الإسلام”2. ولا نرى في ذلك إلا ثنائية “التفكير البدائي” و”التفكير المتحضر”، الذي يختزل تاريخ الشعوب من وجهة نظر أنثروبولوجية إما تاريخ بدائي أو تاريخ حضاري، الشيء الذي يرفضه كلود ليفي ستروس واصفا الشعوب البدائية بمجتمعات ما قبل الكتابة، والمتحضرة بما بعد الكتابة، فهل ينطبق هذا على العرب؟ لم نتمكن من الاطلاع على بعض الكتابات في هذا المجال، ولكننا نعتقد أن الشعوب العربية ما قبل الإسلام ـ على عكس ما هو شائع ـ كانت لها لغة وتعرف الكتابة، ولعل الكتابات القديمة تدل على ذلك، حيث يتحدث المهتمون على أن اللغة العربية هي آخر عنقود في تسلسل اللغات السامية. ومن المحتمل أن تستعمل اعتبار اللغة العربية لغة مرتبطة بالقرآن لخدمة المعجزة.
تحديد إشكالي لمسألة المعتقدات الدينية:
لماذا ينبغي أن نبحث مشكلة الدين لدى العرب قبل الإسلام؟
إن عناصر إجابة أولية تتبادر إلى ذهننا بصدد هذا السؤال، ولكن الأهم أولا هو الكشف عن عمق التعتيم الذي مارسه التراث الأصولي (كما تركه الفقهاء وعلماء الكلام)، فخطاب الأصوليين في القرن الثالث الهجري وما بعده انصب حول الاهتمام بخطاب الدعوة المحمدية وإشكالاته النظرية، غاضين النظر عن ربط هذه الإشكالات بما سبقها. على الرغم من أن التدوين والتأريخ لهذا التراث ولو في صيغته الايديولوجية، قدم لنا كتابات غنية تشهد على وجود حياة اجتماعية وثقافية وفكرية غنية في جزيرة العرب قبل الدعوة. وإن كانت بعض الكتابات عن غير وعي تحاول أن تقدم روايات ووقائع وشهادات لحل مشكلة ما ولتفسير قضية ما تحور مسار الحدث لجعله مناسبا للقالب الايديولوجي، فإنها تشهد على أن المسألة ليست كما يعتقد. إلى جانب التعتيم الذي يمارسه “الفكر الإسلامي / الإسلاموي المعاصر”، في صيغته الأصولية الجديدة.
إن مسألة الدين لدى عرب الجاهلية (كما يحلوا للبعض أن يسميهم) تفيدنا اليوم لإزاحة النقاب عن المسكوت عنه. ودون النزوع منزع البعض الذي يعتبر أن هناك إمكانات عدة لعقلنة السلوك الديني، فإننا نقر بأنه آن الأوان للأخذ بالمعرفي والكشف عنه مكان الإيديولوجي الذي يقف أمام كل موضوعية ممكنة.
هل كان لدى العرب اعتقادات في المرحلة ما قبل الإسلام؟
ليس من قبيل الصدفة أن يظهر الإسلام في جزيرة العرب، دون أن تكون هناك بوادر وشروط لقيام هكذا دعوة توحيدية. فكتب السيرة وتاريخ العرب الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي يؤكد بجلاء الصراع الذي خاضه محمد ضد التيارات السائدة آنذاك، فجزيرة العرب كما تشهد بذلك الروايات التاريخية المكتوبة تؤكد وجود ديانات توحيدية، إلى جانب ديانات وضعية واضحة المعالم وأرست أسسها في هذا المكان، كما لا يمكن تغاضي النظر عن بعض المعتقدات في شكل طقوسي وعادات توارثها العرب، ولعل البعض يذهب أبعد من ذلك ويشهد على استمرارية تلك الطقوس حتى في عهد محمد. وهذا أمر طبيعي جدا، فإذا كان الإسلام قد ظهر فإنه لم يظهر خارج العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية وخارج الواقع الذي يحيط به بل على العكس من ذلك فإنه يستجيب أحيانا للشروط التي ولدته، وهو في طريقه إلى التشكل لأن الوحي لم يأتي دفعة واحدة، ولا السنة أتت يوما واحدا وإنما جاءت متقطعة، مما يجعل البعض يعتبر أن ترتيب الآيات والسور والقصص في القرآن كان ترتيبا غير منطقي وغير مبني على أسس علمية.
ليس “عرب الجاهلية” أو “عرب الجزيرة”، شعبا خارج التاريخ، ولا خارج الزمن، ولا أحد يستطيع حتى أن يبقى بعيدا مستقلا مكتفيا بذاته دون أن يدخل في علاقات جوار وحوار مع الغير، وحتى إذا افترضنا أن عقليته من نوع خاص وجنسه قائم بذاته ولا مثيل له، فإنه ليس بمبعد ولا بمنأى عن أي تأثير خارجي. فهل قدر له أن يبقى كذلك؟ كم يكفيه ليبقى وحيدا؟
ما المقصود بالمعتقدات الدينية؟
في تصورنا العام للمعتقد الديني، نعتبر أن كل ما يتم تقديسه وعبادته يعتبرا معتقدا. فالمعتقد كيفما كان (شيئا ملموسا أو مجردا) يتصل أشد الاتصال بالمقدس، وكل ما يضفى عليه طابع القداسة يحظى بالعبادة، وإن كان هذا التعميم يثير بعض التحفظات فإننا نكتفي بالقول أن المعتقدات الدينية ليست واحدة ولا مشتركة على الرغم من أن بعض الدراسات الفينومينولوجية في علم الأديان المقارن تذهب إلى وجود عبادات مشتركة لدى أغلب الشعوب حيث يتم الانطلاق من نظرة مراحلية تنهل من النزعة التاريخانية، فإن المعتقدات الدينية تظل متنوعة ومختلفة ومتعددة، وهو ما يجعل سؤال “البيئة” والثقافة حاضرا بشكل جلي وواضح في البحث عن طبيعتها. ومما لا شك فيه أن تأثيرات المحيط على المعتقدات حاضر في جل المجتمعات، فبإمكان طقس من الطقوس المتوارثة والمستحدثة أن تتحول مع مرور الزمن إلى معتقد ديني.