الدراسات الدينية مجالا خاصا، تعززه الحاجة إلى تعميق المعرفة بالظاهرة الدينية في مستوياتها وأبعادها الاجتماعية والسياسية. فالأديان عامة تدعي بهذا القدر أو ذاك امتلاكها (كل دين على طريقته الخاصة توحيديا كان أو وضعيا) للحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل، كما تدعي الأحقية في صدق دعواتها. إلا أن الدراسة العلمية (بالمعنى البنيوي لا الاختزالي) لا تقبل هذا الافتراض الأولي الذي يخدم أهدافا إيديولوجية قدر ما يخدم أهدافا معرفية. ويظل هذا الافتراض ـ مع ذلك ـ افتراضا نسبيا قابلا لكل تأويل، فما لم يتم يكشف عن جوهر الأديان وحقيقتها التاريخية، فإن كل محاولة لادعاء الحقيقة النهائية والمطلقة تصبح باطلة وغير علمية بل ومتعارضة مع منطق التاريخ، فالتداخل بين الأديان وارد في تطور كل دين، ولا دين يستطيع الجزم على أن تطوره مستقل تمام الاستقلال عن الأديان الأخرى.
وحسبنا، أننا لا نروم في هذا العرض دراسة الظاهرة الدينية (أي كان نوعها)، دراسة علمية بمنهج دقيق وإنما غرضنا أولا هو محاولة حصر مجال من المجالات التي يبحثها علم الأديان وتاريخ الأديان، ويتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية لدى العرب قبل ظهور الإسلام، أي المعتقدات الدينية التي سادت في “جزيرة العرب”. وإن كان الاهتمام بالتراث قد أغفل وهمش هذه المسألة بحيث لم تعطى لها الأهمية التي تستحقها، فإنه على الرغم من ذلك نجد بعض الدراسات هنا وهناك حول هذا الموضوع، وإننا لنسعى إلى الإحاطة بهذه الدراسات وتقديم أهم الأفكار التي خلصنا إليها من اطلاعنا عليها مع التركيز على عرض وجيز لأهم القضايا المتصلة بالموضوع.
كلمة العرب، والجاهلية
يطرح لفظ “العرب” إشكالا في التحديد، ذلك أن العرب اليوم تشمل العديد من البلدان التي لم تكن عربية إلا بعد الدعوة بكثير، أي بعد الفتوحات، وقد وقف عليه أغلب مؤرخي الحضارة العربية، قبل الإسلام وبعده ويعتبر في نظرنا جواد علي خير من فصل في تحديد معنى كلمة العرب، ونحن نأخذ هنا بتعريفه لهذه الكلمة، حيث يرى أن معنى “لفظة العرب تنسب إلى قوم بلاد العرب أو “العربية”، هي البوادي والخلوات الني أطلق الآشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة “الأعراب”، وعلى باديتهم “Arabeae” و “Arabae” وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام، فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي، فارض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و “طور سيناء” إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال “Araxe”، أي الخابور اسم “Arabia” كما أدخل “هيرودوتس” أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في “العربية” “Arabia”أي بلاد العرب”. إننا نركز هنا على لفظ العرب كما هو متعارف عليه في التاريخ العربي ـ الإسلامي، أما اليوم فيمكننا الحديث عن العرب في كل بلد من بلدان العالم: عرب أوروبا، عرب أسيا، عرب أمريكا…
أما لفظ للجاهلية، فيرى “جواد علي”، أن الناس اعتادوا أن يسموا تاريخ العرب قبل الإسلام “التاريخ الجاهلي”، أو “تاريخ الجاهلية”، وان يذهبوا إلى إن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وإنهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة، فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعالم الخارجي اتصال بهم، أميوّن، عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب “الجاهلية.”
و”الجاهلية” اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزا وتفريقاً لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة.
وردت لفظة “الجاهلية” في القرآن الكريم، في السور المدنية، دون السور المكية، فدل ذلك على أن ظهورها كان بعد هجرة محمد إلى المدينة، و اتخذت هذا المعنى بعد الهجرة.
ولفظة “الجاهلية” نعت إسلامي، نتحفظ على استعماله لأنه ينطوي على نظرة احتقار أكثر منه نظرة إنصاف للشعوب التي عاشت في الجزيرة قبل الإسلام، وهذا الأمر يتعلق بالعديد من المصطلحات الخالية من أي مدلول علمي، وعلى هذا الأساس فإننا سنستعمل لفظة “العرب قبل الإسلام” لما نرى فيه من دقة علمية، ذلك أن الشعوب التي تسمى “قريش”، “عرب الجاهلية”… كلها شعوب وحدت بينها اللغة العربية على اختلاف لهجاتها من منطقة إلى أخرى.
لم يكتفي المدونون في عصر التدوين بترسيخ هذه الألفاظ وإنما تجاهلوا الموروث الثقافي لتلك المرحلة، واعتبروه تاريخ الخرافة والأسطورة لا يستحق الذكر، وهناك من يذهب أبعد من ذلك معتبرا أن هذا التاريخ تعرض لتشويه فرضته الأغراض الإيديولوجية المتنامية مع “الدعوة المحمدية”.
اختلف التدوين حول لفظ الجاهلية واتخذ تحديدات عدة، ولكنها تشير عامة إلى مرحلة ما قبل الإسلام وتشمل:
ـ العصر بين نوح وإدريس (الطبري)
- العصر بين نوح وإبراهيم.
- أيام الفترة ما بين عيسى وموسى، وما بين عيسى ومحمد، وهو ما يسمى في التدوين الجاهلية الأولى والجاهلية المتأخرة.
إن هذه التحديدات الزمنية غير حاسمة نظرا لما يحاط به زمن الأنبياء من قداسة، ونظرا لاختلاف التأويل ولضعف التوثيق، وغياب المصادر التاريخية الأكيدة. فالأديان نفسها تطرح هذه المشكلة، وهنا يصبح دور الأديان المقارن وضرورته واضحا.