المعتقدات الدينية عند العرب قبل الإسلام:
إن الإلمام بالمعتقدات الدينية التي ظلت سائدة لدى “عرب الجزيرة قبل الإسلام”، يقتضي عملا بحثيا أكاديميا، وهو ما لا يسمح به عرض كهذا، ولذلك سنركز اهتمامنا أساسا على محاولة الإحاطة بالمصادر والمراجع المتنوعة والمتعددة ـ على قلتها ـ التي عالجت مسألة التدين والمعتقدات الدينية لدى “العرب قبل الإسلام”، “عرب الجاهلية”.
لا يسع المرء إلا أن يهرع إلى عمق أعماق المعرفة التراثية مسلحا بمناهج البحث العلمية، للبحث عن تأصيل الجذور التاريخية للظاهرة الدينية، نظرا لما يميز الحاضر من العودة بشكل هستيري للتدين، والتطرف الإيديولوجي – العقائدي، ذلك أن حال الإنسان المعاصر هو حال عصي على الفهم، معقد ومركب تتداخل فيه شتى العناصر، وكأنها وحدة مشدوهة إلى حبل أصلي واحد (حبل الصرة). وبالقدر الذي يتحتم علينا الغوص بكل جرأة في عمق المشكلة، فإننا نعتقد أن التحليل السطحي ليس كافيا للإلمام بالمسألة، بل ينبغي الذهاب بعيدا حتى نجعل السؤال في المفترض أنه الحقيقة الأبدية والمطلقة والمسلم بها والتي لا تقبل الجدل، سؤالا مشروعا لنزع القناع عن الوجه الحقيقي الذي لطالما تخفيه القوى المحركة للتاريخ المعاصر: الرسمية منها وغير الرسمية.
إن ضمان تحليل عميق للمشكلة يفترض تعيين أدوات التحليل الناجعة لبلوغ حد أدنى من النتائج المقبولة، ونحن لا نزعم أننا على قدر كاف من الإلمام الدقيق لمختلف المناهج العلمية المعاصرة التي تهتم بتفكيك الظاهرة الدينية المتسمة أصلا بتداخل العامل: التاريخي، السياسي، الاجتماعي، الثقافي…
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن العديد من الدراسات العلمية التي حاورت هذه الإشكالية وعملت على تفكيكها، قد قدمت عناصر هامة جدا، تعفينا من جهد مسبق (أو على الأقل تضمن الأرضية الأولية لهكذا بحث). فالكتابات في تاريخ الأديان العام، وعلم الأديان المقارن، وفلسفة الدين، دشنت في ثقافتنا العربية ـ الإسلامية بشكل بارز منذ العقد السابع من القرن الماضي، نتيجة التقدم الذي أحرزته هذه العلوم في الغرب من جهة، ونتيجة الوعي المتحصل بضرورة الخوض في هذا المجال لاستكمال المشروع الحداثي الذي دشنته الأنتلجانسيا العربية مع الهزات التي عرت واقعها.
إن ازدهار الخطاب اليساري بوجهيه القومي والماركسي إلى جانب الخطاب الليبرالي سيدفع بدراسات نقد الدين والفكر الديني، في إطار نقد العقل العربي (العقلية العربية) إلى الأمام، فليس من المصادفة أن يظهر خطاب النقد في عقد السبعينيات من القرن الماضي (ولو في شكل مشاريع مستقلة) في مشاريع المثقفين المعاصرين العرب. فالإطلالة اليوم على تلك الكتابات يوحي بأن نخبتنا كانت على وعي بما يتربص بالمستقبل القريب الذي تضعه أمام أعينها آنذاك.
لقد شكلت مشاريع فراس السواح منذ كتابه الأول “مغامرة العقل الأولى”، أهم مشروعات خطاب النقد العربي المعاصر. تنضاف إليه مشروعات جزئية وفرعية أحيانا تغذيها: صادق جلال العظم، تركي علي الربيعو، حسن حنفي، رشدي سلمان، العفيف الأخضر، محمد أركون…
لقد وضع هؤلاء مادة دسمة تحتاج إلى إعادة البناء من جديد، وإلى فحص نقدي لبناء مشروع يتغيا وضع الظاهرة الدينية في صلب إشكالاتها الحالية. ولهذا فإننا نعتبر أن ما قدمه الفكر العربي المعاصر من إسهامات ـ ولو على قلتها ـ يتيح الفرصة لرسم هكذا منطلق أولي لوضع سؤال الدين في واقعنا العربي ـ الإسلامي في سكته الحقيقية.
المقدس وتجلياته:
“المقدس هو العقبة الأولى أمام حرية الإنسان” مرسيا إلياد
لقد عرفت تجليات المقدس وأشكال التدين عبر التاريخ تنويعات لا حصر لها، تدل عليها الحفريات العديدة والاكتشافات الأثرية المتوالية، وتدل عليها معتقدات الشعوب “البدائية”، فالاعتقادات الدينية القديمة شديدة التنوع والتعقيد يصعب حصرها، تشهد هالتها على نمط معين من العيش، ففي المجتمعات الزراعية تكاد الاحتفالات والطقوس تمتد من أول المواسم الإنتاجية إلى نهايتها. بالإضافة إلى طقوس الموت والفرع والأحداث الهامة في الحياة: الولادة، الزواج، المرض، تقديس الأشجار والأماكن والظواهر الطبيعية، الشمس، الكواكب، النجوم… عبادة الأوثان والأصنام وتأليه الملوك والأساطير….
إن الإنسان أمام كل هذه المعتقدات يشده البحث إلى الكشف عن الذات والبحث عن سر الوجود والتميز. فهذه المعتقدات تدل أشد الدلالة على التطور التاريخي للثقافة ولنمط عيش الإنسان تلك الذات التي تبحث عن معرفة مصيرها والسعي ما أمكن نحو تملك المستقبل.
إن الإنسان لا يستطيع حقا أن يبقى مكتوف الأيدي أمام الظواهر التي يعايشها، يحسها، يراها، تصدمه وتخلق لديه توترا دائما خاصة حينما تكون الظاهرة غير مسبوقة في حياته، وحتى إذا افترضنا أن الإنسان عاش “حالة الطبيعة” كما يرى فلاسفة الأنوار، فإن هذه الحالة لا تعبر حقا إلا عن سعي دءوب نحو النظام، الانسجام، وسعي وراء “تبرير” حالة الوجود تلك، ولإيجاد تبرير شاف للامعقولة المميزة لحالة الطبيعة كحالة ذهول وشرود أمام الذات وأمام الموضوع معا، وكان الانسجام الذهني وسيلة للتخلص من حالة الفوضى.
لقد أفضى الصراع بين الإنسان والطبيعة إلى إنتاج الثقافة: دين طقوس، فكر، لغة ، أسطورة، رموز… والتاريخ الإنساني المكتوب لم يحفظ لنا إلا القليل من نمط الحياة المادية والفكرية التي عرفتها المجتمعات “البدائية”، وإن كان واضحا أثر تلك الحياة والطقوس والمعتقدات باديا في الديانات التوحيدية، فالإسلام على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ ملزم باتخاذ موقف من اعتقادات العرب السائدة قبل الدعوة، وإذا كان هذا الموقف ضرورة تاريخية فإننا لا نبحث عن حكم قيمة، وإنما عن القيمة التاريخية المتمثلة في الاعتراف بوجود اعتقادات غير توحيدية. ف “وجود عناصر من المعتقدات القديمة في المنظومة التوحيدية لا ينبغي أن يحجب الجدة التي أتت بها والتي تمثل قطيعة مع ما سبقها”3.
إن الإسلام لا يمثل في نظرنا امتدادا طبيعيا للظاهرة التوحيدية، بل يشهد على تواصل الظاهرة الدينية عموما عبر التاريخ البشري، فلا يجوز النظر إلى “جزيرة العرب” وكأنها مجال جغرافي منعزل عما يقع خارجه، بل على العكس من ذلك، فالتبادل التجاري والطقوس المشتركة وأماكن القداسة الموحدة مجال للتأثير والتأثر، وهنا نفهم جيدا الرواية التاريخية التي تنسب عبادة الاصنام إلى لحي بن حارثة بن عمرو الأزدي، كأول من أدخل عبادة الأصنام إلى مكة، بل يعتبره ابن الكلبي: “أول من غير دين بني اسماعيل، فنصب الأوثان وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية”4، فالتأثيرات الخارجية بالنسبة لجواد علي واضحة وجلية وفي ذلك يقول: “يجب ألا نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية”.5