نجاحات جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، لا تخفي أخطاءه الفادحة وحساباته الخاطئة. وأحد أكبر الأخطاء المحاولة الجريئة، في 25 أيلول (سبتمبر) 1997، لاغتيال أحد قادة «حماس»، خالد مشعل، بتسميمه في العاصمة الأردنية عمّان.
كتاب «أقتل خالد: محاولة الموساد الفاشلة لاغتيال خالد مشعل ونشوء حماس» يروي بالتفاصيل محاولة الاغتيال هذه، إضافةً إلى المفاوضات المعقّدة التي أدّت إلى اتفاق سلّمت بموجبه إسرائيل الترياق لسمّ الموساد، وأطلقت زعيم حماس الروحي الشيخ أحمد ياسين.
صدر الكتاب أخيراً في الولايات المتحدة عن دار «نيو برس» للنشر، وعن منشورات «كوارتيت» في المملكة المتحدة (صاحبها الفلسطيني الأصل نعيم عطالله)، و«ألن أند أنوين» في أستراليا. أما المؤلف بول ماكغوف، المولود في أيرلندا، فهو صحافي حائز على جوائز يعيش في سيدني، وسبق أن عمل محرّراً لصحيفة «ذا سيدني مورنينغ هيرالد».
يتمحور الكتاب حول حدث أساسي هو محاولة الاغتيال، لكنه يتوسّع في نطاقه الزمني ليتناول حياة مشعل السياسية، ونشوء «حماس».
ويواكب الأحداث مشاركاً في الجدل ما بين صانعي السياسات الغربيين، وذلك إزاء ضرورة إشراك «حماس» إذا كان لا بدّ من التوصّل إلى حلّ للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
عاد بنيامين نتانياهو إلى رئاسة حكومة إسرائيلية متشددة، بعد أن كان رئيساً للوزراء في الوقت الذي تمّت فيه محاولة الاغتيال. وها هو يواجه مجدداً الرجل الذي أراده ميتاً قبل 12 عاماً. إلا أنّ «حماس» ومشعل هما اليوم أقوى مما كانا آنذاك.
أثناء قيام ماكغوف بالأبحاث لوضع كتابه، أجرى مقابلات مع عدد من اللاعبين الأساسيين والمراقبين لأزمة الشرق الأوسط في ستّ دول، في العام 2007 وأوائل العام 2008. ووضع كتابه المؤلّف من 477 صفحةً بأسلوب سهل القراءة ونابض بالحياة.
وفقاً لرواية الاغتيال التي تشبه أفلام جايمس بوند، انتقل فريق من عملاء الموساد من عواصم مختلفة إلى عمّان متنكّرين كسياح. وخطّطوا لتسميم مشعل بمادة قاتلة ولكن بطيئة المفعول. وبذلك يموت الرجل خلال 48 ساعةً، في حين يهرب فريق الموساد من الأردن.
تقرّر أن يُدَسَّ السم بواسطة «كاميرا» صغيرة وظيفتها كوظيفة «مسدس» محشو بـ «رصاصة» من سائل شفاف هو سم «ليفوفنتانيل»، هذا السم هو تركيبة معدّلة من مسكّن الآلام الشائع الاستعمال «فنتانيل»، وقد ضمّ فريق العملاء طبيبةً حملت ترياق السم الذي كان فتاكاً إلى حدّ أنّ مخططي الموساد طلبوا وجود طبيب يحمل الترياق في حال تعرّض أحد أعضاء الفريق للسم من طريق الخطأ.
وطمأن رئيس الموساد آنذاك، داني ياتوم، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، بأنّ الخطة ستسير كما يجب. إلا أنّ الأمور لم تسِر كما خطط لها الموساد.
فمع أنّ أحد العملاء نجح في دسّ السم في أذن مشعل في أحد شوارع عمّان، فقد تعرّض وزميله للمطاردة من أحد حرّاس مشعل الشخصيين، ويدعى محمد أبو سيف. فدار صراع بين سيف والعميلين، ليمدّ لاحقاً لسيف يدَ العون سعد نعيم خطيب، ضابط في جيش التحرير الفلسطيني الذي صادف مروره في المكان بسيارة أجرة.
هكذا ألقى أبو سيف وخطيب القبض على عميلي الموساد، وسلّماهما الى الشرطة الأردنية. إذّاك لاذ أربعة عملاء من الفريق بالفرار إلى السفارة الإسرائيلية «التي طوّقها جنود أردنيون لمهمة ودية كما زُعِم».
أوّل مَن أطلع العالم على خبر الاعتداء الغريب على مشعل الصحافية اللبنانية رندا حبيب، رئيسة مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في عمّان.
كانت حبيب تلقّت اتصالاً من محمد نزّال، أحد المساعدين الإعلاميين في حركة حماس، أخبرها فيه أنّ مشعل تعرّض لمحاولة اغتيال من قبل معتدٍ يحمل «أداةً غريبةً». بعد ذلك تحدّثت حبيب شخصياً مع مشعل الذي أخبرها بأنّه سمع صوت «همْس» في أذنه عند تعرّضه للاعتداء.
وفي الساعات التالية، وإذ بدأ السم يعطي مفعوله، دخل مشعل في غيبوبة. فكان لا بد له من تناول ترياق وإلا فارق الحياة.
محاولة الاغتيال هذه أثارت غضب الملك حسين لحصولها على الأراضي الأردنية، فحذّر نتانياهو من أنّ عميلي الموساد سيشنَقان اذا توفي مشعل.
وبما أنّ الأردن كان وقّع معاهدة سلام مع إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) 1994، شعر الملك حسين بأنّه تعرّض لخيانة كبرى في محاولة الاغتيال هذه. لأنه كان بعد المعاهدة نسج علاقات مع سياسيين وأمنيين إسرائيليين. فكان مثلاً يستقبل داني ياتوم في مقرّه الصيفي في العقبة. وعلى رغم ذلك، لم يذكر جهاز الموساد للأردنيين أيّ شيء عن مخطّطاته.
واشتبه الملك حسين أن يكون لمحاولة اغتيال مشعل هدفان: أولاً، جعل إنقاذ اتفاق أوسلو للسلام الواقع في سبات أمراً مستحيلاً، وثانياً، زعزعة المملكة الهاشمية، ربما تحضيراً لإقامة دولة فلسطينية في الأردن. فنشأت أزمة كبرى ما بين الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة وكندا.
آنذاك اتصل الملك حسين بالرئيس الأميركي بيل كلينتون ضمن الجهود لإجبار نتانياهو على تسليم الترياق لإنقاذ حياة مشعل. ويروي ماكغوف مفصِّلاً المفاوضات، عبر الاتصالات الهاتفية واللقاءات الشخصية في الساعات الطويلة التي تلت محاولة الاغتيال. وتجدر الإشارة إلى أنّ أحد الأسماء الأردنية التي برزت في تلك الأحداث كان سميح بطيخي، رئيس شعبة الاستخبارات العامة.
أما الكنديون فغضبوا بسبب استعمال المتورّطين في محاولة الاغتيال جوازات سفر كنديةً، وطلبوا تفسيرات من إسرائيل. ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي يُكتَشَف فيها استعمال عملاء من الموساد جوازات سفر كندية في عملياتهم.
فضلاً عن ذلك، كان مبعوث إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي، إفراييم هالفي، نائب مدير الموساد السابق، وطّد علاقته مع الملك حسين على مرّ السنين، فاستُدعي من بروكسيل ليساهم في حلّ الأزمة. عندئذ حثّ هالفي على إطلاق الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس وزعيمها الروحي الذي كان يمضي عقوبةً بالسجن مدى الحياة في أحد السجون الإسرائيلية منذ العام 1989.
وأكّد هالفي أنّ إسرائيل إذا لم تقُم بمثل هذه المبادرة المهمة، فستحرج الملك حسين وتخرجه. غير أنّ نتانياهو الذي رفض في بادئ الأمر، رضخ أخيراً للضغط الذي مارسه الأردنيون والكنديون والأميركيون، لا لتسليم تركيبة السمّ والترياق فحسب، بل لإطلاق الشيخ ياسين أيضاً «في سبيل إنقاذ عملية سلام ربما كان يفضّل أن تفشل».
ووفقاً لماكغوف، عندما تعرَّض مشعل لمحاولة الاغتيال، «كان قد خضع لمراقبة مجموعة عملاء الاستخبارات الأجانب في عمّان». ولم يكن سفير الولايات المتحدة آنذاك وسلي إيغان يعرف مَن يكون مشعل. فسأل السفير رئيس مكتب وكالة الاستخبارات المركزية في عمّان دايف مانرز عن هوية مشعل، وذلك بعد اللقاء بالملك حسين لمناقشة الأزمة.