الهيدرا" كائن خيالي له سبعة رؤوس، كلما قَطَعْتَ رأساً منها نبت مكانه رأسان. ومثلما يستحيل التخلص من رؤوس الهيدرا يستحيل اقتلاع المقاومة، ويستحيل القضاء عليها.
هذا هو الدرس الذي يقوله تاريخ جميع حركات المقاومة والتحرر الوطني عبر العالم. وهذه هي الرؤية الواقعية للمقاومة، وهذه أيضاً هي النتيجة التي توصلت إليها أغلبية الدراسات الأمنية والإستراتيجية الإسرائيلية ومن أحدثها دراسة "هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟ ـ معركة إضعاف حزب الله" لداني بركوفتش، وقد صدرت في نهاية 2007 عن معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب؛ أي بعد أقل من سنة وستة أشهر من نهاية حرب يوليو على لبنان 2006، وقبل حوالي سنة كاملة من العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية 2008 وبداية 2009.
وقد صدر الكتاب في طبعة عربية عن مكتبة الشروق الدولية قبل أيام قليلة، مع دراسة حول مراكز الدراسات الإستراتيجية وأبحاث الأمن القومي وأهميتها في صنع السياسات في الدول الكبرى عالميا وإقليميا.
تعرف إسرائيل الحقيقة الأبدية التي لا تتغير ولا تتبدل بشأن حركات المقاومة والتحرر الوطني وهي أنه يستحيل اجتثاثها أو إخمادها قبل إعلان بيان التحرير وجلاء المحتل. ولهذا فإن أقصى ما تأمله السياسة الصهيونية هو أن تضعف المقاومة التي تواجهها سواء في لبنان بقيادة حزب الله، أو في فلسطين بقيادة حماس.
ولهذا تتبنى الدولة العبرية "إستراتيجية إضعاف المقاومة" لاستحالة القضاء عليها، وخاصة بعد أن جربت ولاحظت أنه كلما اغتالت مقاوماً حل محله عدد من المقاومين، تماماً مثل الهيدرا، كلما قطعتَ منها رأسا نبت مكانه رأسان.
"داني بركوفيتش" واحد من كبار الخبراء الإستراتيجيين في إسرائيل، وقد وضع كلمة "الهيدرا" في عنوان كتابه المذكور ليلخص فكرته الرئيسية التي ينطلق منها في بناء رؤية إستراتجية للتعامل مع المقاومة التي تواجه إسرائيل.
والكتاب مخصص للإجابة على سؤال مركزي هو: كيف يمكن إضعاف المقاومة" اللبنانية بقيادة حزب الله باعتراف تقرير فينوجراد؟ المؤلف ينطلق من مسلمة أساسية هي أن إضعاف المقاومة أمر ممكن ولازم كي تتمكن إسرائيل من تقليص الخطر الذي تشكله هذه المقاومة على إسرائيل وعلى استقرار المنطقة. ولن تضعف المقاومة حسب رأي بركوفيتش قبل أن تتمكن إسرائيل من تحويلها إلى لاعب ثانوي غير ذي صلة تجاه المعادلات الإقليمية.
والسؤال الإستراتيجي هو كيف يمكن إضعافها؟. ما قدمه المؤلف ينصب أساساً على حالة حزب الله، ولكنه يعرج بين الحين والآخر على الحالة الفلسطينية.
وما سنقدمه هنا هو "قراءة في الكتاب"، وليس عرضاً له، مع التوسع في تطبيق خلاصاته المهمة على حالة المقاومة الفلسطينية رغم أنها ليست موضوعاً رئيسياً في هذا الكتاب.
اهتم بركوفتش كثيراً في الفصلين الأول والثاني من الكتاب برصد وتحليل عناصر قوة المقاومة عند حزب الله، ثم انتقل في الفصلين التاليين لمناقشة كيفية إضعاف كل تلك العناصر. ويمكن إيجاز ما رصده في ثلاثة عناصر أساسية هي:
1. قوة العقيدة والإيمان، التي ينتج عنها التمسك بالمقاومة بأي ثمن.
2. قوة التجذر الشعبي للمقاومة وقدرتها الكبيرة على التوسع الاجتماعي.
3. قوة الروابط الإقليمية بين جماعات المقاومة وبعض الدول العاصية (أو دول محور الشر بالتصنيف الأمريكي) مثل إيران وسوريا.
كل عنصر من تلك العناصر يحتاج -بحسب الرؤية الإستراتيجية الصهيونية- إلى وسيلة أو أكثر لخفض قوته إلى أدنى حد. وبحاصل جمع الضعف في كل منها، يمكن التوصل إلى الهدف الاستراتيجي الأساسي وهو "إضعاف المقاومة".
ما السياسات والإجراءات التي يقترحها بركوفتش لإضعاف العناصر الثلاثة لقوة المقاومة؟ هذا هو موضوع الفصلين الثالث الرابع من الكتاب، إضافة إلى خاتمته، وملحق السيناريوهات التي ترسم ملامح الصورة المحتملة لتطور المقاومة في مواجهة إسرائيل.
إستراتيجيات إضعاف قوة العقيدة
يتعقب داني بركوفتش مفردات قوة العقيدة والإيمان محاولاً التعرف على أسرار فعاليتها وخاصة عندما تتحول إلى أعمال وإنجازات على الأرض.
أحد أهم هذه المفردات التي تنبع من قوة العقيدة والإيمان هو "الاستشهاد"؛ فالاستشهاد هو الذي يترجم قوة العقيدة وينقلها من المستوى النظري المجرد إلى المستوى التطبيقي المتعين في زمان ومكان محددين. وعلى أساس هذه العقيدة بنت المقاومة طموحها لتحرير جنوب لبنان، وتبني طموحها لتحرير فلسطين وممارسة الجهاد إلى حين زوال إسرائيل، هكذا يلخص المؤلف إدراكه لعقيدة الاستشهاد.
استراتيجياً يمكن إضعاف قوة العقيدة -بكل مضامينها ومفرداتها- بأن تركز إسرائيل والولايات المتحدة من خلفها على محاصرة الثقافة التي تنتجها وتحض عليها من جهة، وتشجيع كل ما من شأنه التشكيك في أهميتها في نفوس أنصار المقاومة عموماً، وتفتيت هذه النواة العقيدية الصلبة التي تشكل مرجعية عليا لكل نشاطات المقاومة وبرامجها.
النبع الذي ينتج ثقافة المقاومة والجهاد ويغذي عقيدة الاستشهاد يجب تجفيفه قدر المستطاع؛ نظرياً وعملياً. هذا ما أراد المؤلف أن يقوله بطرق غير مباشرة، وعبر تحليل كثير من وقائع الصراعات المتفجرة في المنطقة، مع التركيز بشكل واضح على إبراز التناقض بين ما يسميه داني بركوفتش "المعسكر العربي السني"، و"محور الهلال الشيعي".
ففي رأيه أن من مصلحة إسرائيل أن يدرك المعسكر العربي السني مجريات المقاومة في لبنان باعتبارها شهادة خطيرة على التهديد الإيراني/ الشيعي للشرق الأوسط. ومن المهم لإسرائيل إستراتيجيا أن يقوم هذا المعسكر "السني بتصوير حزب الله على أنه عميل إيراني يسعى لنشر المذهب الشيعي".
ومن الأساليب التي يقترحها أيضاً: دق إسفين في الهلال الشيعي بإخراج سوريا منه عبر إغرائها ببعض الحوافز إن هي تخلت عن حزب الله، ويجب أن تكون الحوافز مجزية لسوريا إلى الحد الذي لا تجد معه مناصاً من تفضيلها والتضحية بحزب الله.
العراق وفلسطين هما من أهم هذه البؤر الملتهبة خارج لبنان ويسعى حزب الله لتوظيفها في المعركة الإقليمية الواسعة التي تستهدف إضعاف إسرائيل أيضاً. ولهذا فإن إسرائيل ذاتها ترى أن أي نجاح يحققه حزب الله على هاتين الساحتين ليس من شأنه إضعافها هي فحسب، وإنما يضعف أيضاً تأثير الولايات المتحدة، ويزعزع "الأنظمة السنية" الحليفة لها في المنطقة.
ويرى المؤلف أن من مصلحة إسرائيل أن تنتقل الحركات الجهادية/السنية من العراق إلى لبنان لتدخل على خط الانقسام الطائفي المذهبي السني/الشيعي. وبذلك تظهر أهم حركات المقاومة في حالة تنازع على أساس مذهبي، وهذا يؤدي إلى تضعضع "قوة العقيدة" لديهما معاً، ولدى الدوائر المحيطة بهما، وأيضاً لدى الأجيال الجديدة.
هنالك، وهنالك فقط تكون إسرائيل قد أنجزت هدفاً إستراتيجياً يدعم أمنها القومي بإضعاف قوة العقيدة بشكل عملي.
بركوفتش ينبه إلى أن حزب الله يعطي أهمية كبيرة جداً للمعركة على الوعي، أكثر -أحياناً- من اهتمامه بالمصادمات العسكرية، ولهذا استثمر قسماً كبيراً من موارده في بناء إمبراطورية إعلامية (قناة فضائية -محطة إذاعية- مواقع إنترنت بعدة لغات بما فيها العبرية، وصحف، وكتب، ونشرات مختلفة)، وهذا ما يسبب إزعاجاً كبيراً للطرف الصهيوني لأنه يكسر احتكاره التقليدي لرواية الصراع من طرفه فقط. وبكسر هذا الاحتكار فإن العالم ستكون لديه رواية أخرى مختلفة ومليئة بالمعرفة والمعلومات الدقيقة عما يجري في صراعه مع قوى المقاومة في المنطقة، ومن ثم ينكشف زيف الرواية الصهيونية، وتسقط مصداقيتها لدى الرأي العام العالمي الذي بدأ يستمع لوجهة النظر الأخرى.
نجاح حزب الله في "معركة الوعي"، شجع حماس وقوى المقاومة الفلسطينية على الشروع في بناء قاعدة إعلامية تتسع يوماً بعد يوم، وتتسم بالجدية والموضوعية، حتى إن فضائية الأقصى وفضائية القدس اللتين أنشأتهما حماس والمقاومة الفلسطينية قبل فترة وجيزة، وفي ظروف بالغة الصعوبة؛ أحرزتا تفوقاً كبيراً من الناحية التقنية والاحترافية على كثير من القنوات الفضائية العربية التي صار لها عشرات السنوات، رغم توافر الكفاءات والموارد بأضعاف أضعاف ما هو متيسر لفضائيتي الأقصى والقدس.
قوة العقيدة هي الزاد الأساسي الذي تتغذى عليها المقاومة وتضمن لها الانتصار في "معركة قوة الوعي". والاقتراح الذي يناقشه المؤلف هو ضرورة إعادة إنتاج صورة لقوى المقاومة (أحزاب، وحركات، وقادة، ونشاطات...) من منظور طائفي مذهبي شيعي/سني.