يعبر المؤلف -في أكثر من موضع من الكتاب- عن انزعاجه من أن المقاومة صارت لها اليد العليا في المعركة على الوعي التي تخوضها ضد إسرائيل. وينبه بشدة إلى أن "قوة العقيدة" ليست مجرد كلام نظري، وإنما هي طاقة معنوية تتحول بسرعة وبنجاح كبير إلى قوة قتالية. ويؤكد مراراً وتكراراً على أن المقاومة -اللبنانية والفلسطينية- باتت على يقين من أن انتصارها في المعركة على الوعي، يمكن أن يحسم المعركة كلها.
ويذكر بركوفتش مثالاً على نجاح المقاومة في معركة الوعي لدى قطاعات جماهيرية واسعة من الرأي العام العالمي بالرواية التي يبثها الإعلام المقاوم مستندة إلى حجج قوية وواقعية تؤكد على أن رد فعل إسرائيل غير تناسبي، وكونها هي المهاجم، وأن أعمالها غير شرعية، وأنها قابلة للهزيمة، وهزمت فعلاً. فكرة بيت العنكبوت التي تبناها حزب الله -مثلاً- في حرب يوليو/ تموز أزالت الهالة من حول الجيش الإسرائيلي، وعززت الأمل في تحرير القدس كما يقول المؤلف.
ما يقوله بركوفتش من أن المقاومة صارت لها اليد العليا في المعركة على الوعي فيه كثير من المبالغة والتهويل من حجم الإعلام المقاوم.
وهذه المبالغة مفهومة من منظور المقارنة بين وضع الاحتكار الصهيوني لرواية مجريات الصراع وتشكيل الوعي لدى الرأي العام العالمي، والوضع الجديد الذي بدأت المقاومة تحقق فيه بعض الإنجازات لكسر هذا الاحتكار. وهذه إحدى المعارك الإستراتيجية الكبرى التي لن تنتهي في الأجل القريب.
إستراتيجيات إضعاف قوة التجذر الشعبي للمقاومة
إضعاف قوة التجذر الشعبي للمقاومة وتقويض قدرتها على التوسع الاجتماعي، مسألة بالغة الأهمية من المنظور الإستراتيجي. وهي تتطلب أن تتبنى إسرائيل مجموعة سياسات تؤدي إلى أن "يكره المجتمع مقاومته" وينبذها، ويحملها مسئولية تدهور أحواله المعيشية.
ويمكن أن يتحقق ذلك عبر إستراتيجية ذات أبعاد وأدوات متنوعة تشمل: فرض الحصار الاقتصادي والتجويع، والتهجير، وتوجيه الضربات العسكرية للجسد المدني بحجة وجود المقاومة، وتكثيف التغطية الإعلامية التي تبرر الضرب والحصار بوجود المقاومة بحجة الدفاع عن النفس، مع دمغ المقاومة دائماً بوصف الإرهاب؛ حتى يمكن عزلها عن محيطها الاجتماعي، وحرمانها منه كحاضنة طبيعية لها.
وفي هذا السياق يؤكد بركوفتش على أن الثروة الأساسية لحزب الله تتمثل في الدعم المجتمعي له، وإن كان المؤلف يحاول أن يحصر هذا الدعم في الطائفة الشيعية، ويرى أنها تحولت إلى الطائفة الأقوى خلال السنوات الأخيرة؛ بدلالة المؤشرات الديمغرافية؛ حيث تمثل ثلث سكان لبنان، ويحذر من أنها قد تشكل الأغلبية في المستقبل القريب.
ويرى أن دعم هذه الطائفة هو بطاقة دخول حزب الله في الشرعية السياسية للنظام اللبناني القائم على أساس المحاصصة الطائفية بحكم الدستور والقانون، ولهذا فإن نجاح حزب الله في توسيع مشاركته في إعادة هيكلة النظام السياسي اللبناني سيكرس تجذره الاجتماعي، ويزيد من قدرته على التوسع الشعبي
إن أخطر إنجاز يمكن أن تحققه المقاومة على الصعيد الاجتماعي هو شبكة المشروعات الخدمية الواسعة التي -كما يقول بركوفتش- محت الخدمات التي كانت تقدمها العائلات الكبيرة، أو المؤسسات الحكومية، أو شبه حكومية. وهذا هو السر الأكبر الذي يفسر قدرة المقاومة على التوسع الاجتماعي، وكسب الولاءات من التكوينات التقليدية العشائرية والعائلية. ويرى المؤلف أن الطريق لا تزال طويلة أمام إسرائيل حتى تشهد معارضة سياسية أو رفض اجتماعي واسع للمقاومة طالما استمرت شبكاتها الاجتماعية والخدمية والإنسانية ناجحة وفعالة.
النجاح على الصعيد المجتمعي، يدعو إلى اشتقاق إستراتجية تهدف إلى تقويض النشاطات الخدمية والمشروعات المدنية التي تدعمها المقاومة، أو يجري توجيهها لدعم المقاومة، دون الالتفات إلى كون هذه المشروعات ذات طابع "إنساني"، أو "مدني"، أو "خدمي". وتجد إسرائيل باستمرار أن تحملها لانتقادات جماعات حقوق الإنسان، ومنظمات الإغاثة الإنسانية بما فيها منظمات الأمم المتحدة، أهون وأقل تكلفة من سلبيات الإبقاء على تلك النشاطات في الأجلين المتوسط والبعيد.
الأمر نفسه ينطبق على حالة المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حركة حماس، التي تزداد قدرتها على التوسع الاجتماعي في صفوف الشعب الفلسطيني، ليس فقط في داخل الأراضي المحتلة، وإنما في أغلب مخيمات الشتات في الخارج. وكلما زادت قوتها الاجتماعية، قلت فرص تطويعها ودمجها بسهولة في مسار العملية السلمية بالمنظور الأمريكي الإسرائيلي، وضعفت احتمالات طيها داخل النظام السياسي الفلسطيني الذي حددت معالمه اتفاقيات أوسلو.
وقد زاد استعصاء المقاومة الفلسطينية على الاستيعاب في العمل السياسي وفق شروط سلطة أوسلو بعد فشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه من عدوانه على غزة، وخروج المقاومة أكثر شعبية، وأكثر التحاماً مع مجتمعها. وهذا هو سر تركيز إسرائيل على تشديد إجراءات الحصار، والتجويع، واستهدافها الدائم في عدوانها على غزة للبنى الخدمية والمشروعات التعليمية والصحية والاجتماعية كي تحرم المقاومة من التأييد الشعبي، وتفقدها القدرة على التوسع الاجتماعي.
إستراتيجيات إضعاف قوة الروابط الإقليمية
إضعاف قوة الروابط الإقليمية للمقاومة فيكون عن طريق تقديم إغراءات، أو تهديدات للأطراف الإقليمية الداعمة للمقاومة (سوريا وإيران)، وزيادة محتويات سلة الحوافز أو التهديدات التي تجعل هذه القوى تفضل القبول بالسلة الأكثر فائدة والأقل ضررا لها.
تكمن أهمية الروابط الإقليمية للمقاومة في أنها تضمن لها القدرة على العمل لفترة طويلة، ومن ثم تزيد الأعباء التي تتحملها إسرائيل في مواجهتها. وأهم دولتين لهما روابط مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية هما سوريا وإيران.
وينبه المؤلف إلى أن بصمات إيران واضحة في كل جانب من جوانب عمل حزب الله؛ فعقيدته مستمدة من قيم الثورة الإسلامية، وميزانيته الجارية تأتي من إيران، وهي التي تمول أيضاً شبكة الخدمات الاجتماعية التي يديرها الحزب، وخاصة في الجنوب، والضاحية الجنوبية لبيروت، كما أن إيران هي المسئولة عن تشكيل الجهاز العسكري للحزب، ولها تأثير كبير على اختياراته الإستراتيجية.
أما سوريا فقد سعت لتقوية حزب الله أثناء وجودها في لبنان، وبقيت مصالحهما متبادلة بعد انسحابها. وفي ظل غياب بدائل لسوريا في لبنان فإن دمشق لن تسرع في التنازل عن علاقتها بحزب الله.
وهكذا يخلص المؤلف إلى أن العلاقة الوثيقة بين حزب الله وكل من إيران وسوريا هي أساس لمثلث استراتيجي/إقليمي يسميه أعضاؤه "محور المقاومة" بينما يسميه خصومه "محور الشر". والأمر نفسه ينطبق على علاقة المقاومة الفلسطينية بكل من سوريا وإيران مع وجود اختلافات نوعية وكمية هنا وهناك.
مجمل المناقشات المسهبة التي أجراها المؤلف بالنسبة لكيفية فك روابط المقاومة مع سوريا تؤكد على أن إسرائيل قد جربت عدة وسائل، ولكنها لا تزال لديها شكوك حيال قدرة سوريا على المساهمة في إزالة تهديد حزب الله عن إسرائيل مقابل إعادة هضبة الجولان وجلاء الاحتلال عنها. أي أن إسرائيل تبدي استعدادات للخروج من الجولان مقابل إنجاح إستراتيجيتها لإضعاف المقاومة اللبنانية.
والأمر نفسه ينطبق بإلحاح أكبر بالنسبة للمقاومة الفلسطينية التي يقيم عدد كبير من قادتها في دمشق.
عدم نجاح إسرائيل في كبح جماح المقاومة باستخدام القوة كان أحد العوامل التي شجعتها على الانسحاب من جانب واحد من غزة، ثم وقف إطلاق النار من جانب واحد في حربي لبنان وغزة أيضاً؛ وكانت الفرضية الأساسية هي أن التصرف على هذا النحو من طرف واحد سيؤدي إلى تآكل شرعية المقاومة؛ لأن الانسحاب، أو وقف إطلاق النار، سيزيل ذريعة المقاومة في مواصلة تحديها لإسرائيل وتهديد أمنها طول الوقت. ولكن الذي حدث ـ في جميع الحالات ـ هو استمرار المقاومة رغم الانسحاب، واستمرار التهديد الأمني رغم وقف النار.
دوائر صنع القرار والبحث الاستراتيجي فحصت بدائل إستراتيجية مختلفة لإزالة تهديد حزب الله، تتجاوز استخدام القوة. منها واحدة تعرف باسم "إستراتيجية شق المنظومة الشمالية" التي تعمل ضمن منطق مشترك ضد كل من إسرائيل وأمريكا. وبحسب هذه الإستراتيجية يجب تركيز الضرب على سوريا لأنها ـ في الرؤية الإسرائيلية ـ هي الحلقة الأضعف، أو لأنها أقرب لقبول الإغراءات، مقارنة بإيران التي تبدو أقوى، وأكثر استعصاءً على الإغراءات.
أقصر الطرق للمس بعلاقة المقاومة ـ وأفضلها استراتيجيا لإسرائيل ـ هو سقوط النظام الإسلامي في إيران، بناء على فرضية أن النظام الذي سيخلفه سيكون مختلفاً وأقل تطرفاً، وأنه يمكن لسياسة العقوبات والضغوط على إيران أن تؤثر على سياساتها تجاه حزب الله والمقاومة الفلسطينية. ولكن بركوفتش ينتهي إلى أنه رغم أن مشكلة تغيير النظام في إيران تشغل الساحة الدولية، وبشكل خاص الولايات المتحدة، التي تخشى من آثار وجود جمهورية إسلامية نووية؛ إلا أنه توجد حالة من عدم اليقين تتعلق بإنضاج مسارات التحريض في الساحة الإيرانية الداخلية؛ الأمر الذي يجعل معقولية تغيير استراتيجي كهذا منخفضة، ولإسرائيل تأثير ضعيف إلى حد كبير في تقوية هذه المسارات.
ينتقل المؤلف لمناقشة بديل آخر يستهدف "المس بالعلاقة بين سوريا وإيران"، ويرى أن هذا محور استراتيجي على درجة كبيرة من الأهمية؛ إذا نجحت إسرائيل في إبعاد سوريا عن إيران، فسوف ينعكس ذلك بشكل سلبي على قوة المقاومة بتشتيتها بين القطبين السوري والإيراني. ولكن المس بعلاقة المقاومة بإيران يبدو في النظرة الإستراتجية الإسرائيلية أكثر فائدة؛ لأن العلاقة مع إيران لا تمنح المقاومة جبهة خلفية إستراتيجية وشبكة أمان مادي فحسب، وإنما لأن المقاومة ليس أمامها خيارات بديلة لها ذات قيمة.
ومن هنا فإن ضرب علاقة المقاومة بإيران سيكون هو الأرضية لتنفيذ بقية شروط إضعاف المقاومة. ولتوضيح ذلك علينا أن نتأمل في التداعيات الآتية: إذا ضعفت المقاومة بإبعادها عن إيران، ستكون أقل جاذبية لسوريا، وستكون لديها موارد أقل للمحافظة على قوتها الاجتماعية، وعلى قدرتها العسكرية التي تخل بالأمن الإسرائيلي.
حصيد هذه الدراسة الإستراتيجية يركزه المؤلف في خمس سيناريوهات، يصعب جداً اجتزاؤها، أو تقديم خلاصة لها، وليس أفضل من قراءتها بتفاصيلها في الكتاب لنعرف الإجابة النهائية التي يقدمها المؤلف على التساؤل الذي بدأ به وهو "هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟"