ثمّة أمر جلل في نضال جمعية العلماء يثير تساؤل السائلين وهو: لماذا حاربت جمعيّة العلماء الطرقيّة في ذلك الظرف العسير، و الطرقيون هم من أبناء الجزائر، فكان الأوْلى لها أن تُمسِك و تؤجّل خلافاتها العقدية معهم إلى ما بعد الاستقلال ؟
و الجواب عنه أن جمعية العلماء الأولى حوت رجالا عظماء بعلمهم و رسوخهم في الدّين، و علموا من التاريخ أن الاستعمار ما حلّ إلا في بلد قد استفحل فيه الجهل و البدع، و قد أرادوا للجزائر أن تتحرّر بجهاد شرعي تكون فيه كلمة الله هي العليا و حتّى تثبِّت في القلوب عقيدة صحيحة لا غبش فيها، و لن يكون ذلك إلا بردّ البدع التي هي بريد الكفر و الشّرك، و لا تزيد الثورة إلا خبالا، فقد أخرجت كتائب من طلبة العلم كانوا من بعد هم فرسان ساحات الوغى حين حمي الوطيس ، و أسّست جريدة المنتقد ردّا على قالة السوء "اعتقد لا تنتقد"، و لم تحابي و لم تداهن في مواضيع العقيدة، فردّت على الطاهر بن عاشور في مسألة قراءة القرآن على الأموات مع شهادتها له بإمامته، و ردّت على عبد الحي الكتّاني لنصرته الطرق الصوفية، و قد أدركتُ من طلاّبها من أخبرني أنّهم لُقّنوا أنه من أراد العقيدة الصحيحة فعليه بكتب ابن القيّم.
و صفوة القول أن تحرير الأرض هو حقّ إنساني، يشترك فيه المؤمن و الكافر، و قد عرفنا ما فعله الفيتناميون بأمريكا، و ما فعل الفرنسيون أنفسهم ضد الألمان، غير أن هذه الملّة قد اختصّت بالجهاد الذي هو ذروة سنام أمرها، و من أراد لجهاده أن يكون شرعيا فعليه بتصحيح العقيدة حتى يكتب المقتول عند الله شهيدا، و يكون النصر بعدها تمكينا، و من أراد لقتاله أن يكون مع من يعتقد الضرّ و النفع في واحد من البشر أو مع من يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلّم و أمّهات المؤمنين فلا ضير عليه أن يسمّي قتاله مقاومة، فحسبه منه المعنى الإنساني و أما الجهاد فأنّى له بريحه ؟!!
الحلم والأناة:
لقد كانت مجازر الثامن ماي من عام 1945 هي الضربة التي قصمت ظهر البعير، و قضت على كل سبيل للحلّ السياسي أو تفاوض لأجل الاستقلال أو حتّى لتحسين الظروف، و من ساعتها تيقّنت النخبة العاقلة أجمع أنه لم يبق أمامها من خيارٍ إلا الحلّ المسلّح، و بذلك اتّخذت قرارا تاريخيا جريئا، و الأجمل أنه قد زيّنه حلم، فلم تكن ردّة الفعل مباشرة، حتى لا تدخل الوطن إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، و ساعتها بدأ التحضير السريّ و الجديّ للثورة، فهي إذن لم تكن فجائية أو ارتجالية، ففرنسا كغيرها لا يتفاوض معها إلا بلغة الرصاص على موائدٍ هي جبال و هضاب الجزائر، و بعد تسع سنين من المخاض العسير، خاصة بعد اشتداد تلكم الخلافات الطاحنة بين فريقين من صفّ واحد، قامت عصبة من الشباب من بينهم لزمت الحياد و قرّرت تفجير الثورة و ليكن ما يكن، و من أبى أن يتوحّد طوعا فليوحّد كرها، فالخلاف حولها كان آيلا بها حتما إلى الإجهاض، و هؤلاء الشباب لم يكونوا من الرموز التي يشار إليها بالبنان و لم يكونوا طرفا في صراعات حزبية، فقد جاء أن سويداني أبو جمعة قام في المؤتمر التحضيري و هو يوبّخ الحاضرين و الدموع تنهال من عينيه و هو يقول:"أولا هل نحن ثوريون ؟!! إذن ماذا ننتظر لنقوم بهذه الثورة إذا كنا مخلصين صادقين مع أنفسنا..".
و في الفاتح من نوفمبر خرجت الثورة كفراشة تنشر أجنحتها على طول الجزائر و عرضها، و بدأت الحرب في أولها بالمداهمات المفاجئة و نصب الكمائن لعسر الحال و الفقر من العدّة، إلى أن ترقّت بوصول المدود من باقي الدول القريبة و البعيدة، فصار بإمكان جيش الجزائر أن يلاقي العدو وجها لوجه.
"كان الإعدام الخونة، و المتعاونين مع العدو هو الهدف الأول للمقاومة السرية و جيش التحرير على السواء. فالخائن في العرف الوطني هو عين الاستعمار، و هو الجرثومة الخطرة التي يبتلى بها الوطن.. و قد نجحت في القضاء على الخونة المارقين، أذناب الاستعمار، عبيد ماله، ومن بينهم "ابن التكوك" شيخ الطريقة السنوسية في مستغانم".
و مرادي أنّ أهل الإيمان قد يُدَالُ عليهم من عدوهم و لا يقدرون على ردّه، فعليهم أن يتزيّنوا بالحلم و الأناة لحبّ الله لهاتين الخصلتين، و لأن ثمارهما دانية القطاف بعد التصبّر للزمن، فليس من الواجب لمن كان مستضعفا أن تكون ردّة فعلته مباشرة إن لم يكن ساعتها أهلا للمصادمة، فقد عُذّب أصحاب النبي صلى الله عليه و سلّم و اضطهدوا و لم يكن منهم أيّ عمل مسلّح، فلا قِبل لهم بالمواجهة، و إلا لكانت قد قضت عليهم قريش أجمع، فخرجوا من مكّة و لم يُعدّ ذلك جبنا منهم، و هم يأملون في العودة حين يأذن الله لهم و تقوى شوكتهم، و قد عادوا إليها فاتحين و لم يسلّ سيف من غمده.
و من النّاس اليوم ممّن يودّون أن يسايروا بالنصر و التمكين مع عصر السرعة، فغاية مناهم أن يزرعوا في غدواتهم ثم يعودوا ليطلبوا الثمر في عشيّهم، و تكون مغارمهم فئام من الناس يزجونهم في معارك معروفة العواقب، و قد أوصانا الله أن نعدّ العدّة:" وأعدّوا لهم ما استطعتم.."، فما دام المؤمن يعدّ ما استطاع فهو في جهاد و إن لم يجاهد، كالمصلّي الذي يتهيّأ للصلاة فهو في صلاة و إن لم يدركها. و إلا فما بال صواريخ الأعداء تأخذ منّا الأهل و الأخلاّء، و صواريخنا تلقي بنفسها حاضنة الخواء و الخلاء ؟!!