الكاتب أ. زكي بن محمد التلمساني* 29 / 04 / 2009 ... الشيخ عبد الحميد بن باديس ... يخبرنا عن خراب الاستعمار فيقول:"قلّبْ صفحات التاريخ العالمي وانظرْ في ذلك السجّل الأمين هل تجد أمة غُلبت على أمرها، ونكبت بالاحتلال ورزئت في الاستقلال ثم نالت حريتها على منحة من الغاصب وتنازلاً من المستبد ومنّة من المستعبد .. كلاّ، فما عهدنا الحرية تعطى، إننا عهدنا الحرية ..
لعلّ من أوْجبِ الواجباتِ التي علينا نحو شعوبنا أن نقرأ لها تاريخها المصفّى الذي به مادة حرّيتها ورفعتها، فنستخلصها لها و نسقيها إياها خالصة كبصائر لكل سائر، و منائر لكل ثائر، سلبت منه أرضه و قصدت عقيدته و لغته و تاريخه، فلا بدّ و أنْ يكون فيما بين يديه من أخبار ما مضى من النماذج التي يتأسّى بها حتى لا تزِلَّ له قدم، و لأنّ التاريخ عجلة تدور لتعود إلى مبدئها ، و أعداء هذه الأمة يتداولون المهام بينهم بحسب كبيرهم الذي علّمهم الشرّ، فلا خلاف بينهم إلا في مسمّياتهم.
لقد عانى القطر الجزائري من ويلات الاحتلال الفرنسي لمدّة تزيد عن القرن و ثلثه، ضربت خلالها على شعبه الأسداد، فلم يرَ النور إلا إن تسلّل إليه خفية، و حجبت عنه كل بارقة خير، و سامت الأهل بالتقتيل و التجويع و الاضطهاد، و سلبت آساده كل قوة تتيح لهم عيش الكفاف، و شرّدت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحقّ المغصوب، و أبت إلا أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلا ملحقا بفرنسا، و قد طالت ساعة البلاء على هذه الأمة حتى انهدّت أركانها لتنمحي رويدا رويدا معالم كينونتها، بلْ كاد الزّمن أن يعفي على اسم الجزائر كما عفى من قبل على اسم الأندلس'، حتى أنّ أحد أبنائها من المثقفين قال أنه قد طاف بالقبور و لم يجد للجزائر أثرا.
وعملت فرنسا بكل ما ملكت من الشر و أدواته لترسّخ في الأذهان و تلّقن الأفهام فكرة "الجزائر الفرنسية".. بيد أنّ الله إذا أراد أمرا فلا رادّ له، و إذا أتت مدوده فلا موصد للأبواب في وجهها:" و الله متمّ نوره و لو كره الكافرون"، و بعد طول ليل النائبات بزغ فجر الثورة، و بعد المخاض العسير المؤلم خرج إلى الحياة شعب الجزائر بعد أن سلبت منه الحياة غصبا، و هو على أهبة ليختار المنيّة الرفيعة على الدنيّة الوضيعة، فيصفه أبو الحسن الندوي –رحمه الله- فيقول:"..أولئك الذين يؤدّبون البربرية الفرنسية، في بقاع الجزائر الكريمة، و الذين تذكّرنا أعمالهم العجيبة، بأيام محمد صلى الله عليه و سلم و بأيام أصحابه البررة. أجل إذا كان هنالك في أيامنا خوارق حقا، فإن هذا الذي يصنعه إخواننا الجزائريون –في قلّة عددهم و عُددهم مع كثرة العدو الفادحة فيهما معا- إنما هو من أعلى طراز الإيمان و أغلاه، و لا عجب في شأن أهل الإيمان، فقديما قال فيهم ربهم:" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، و الله مع الصابرين".
ولقد بيّض هذا الشعب وجه الجهاد و رفع رأس الإسلام الحق عاليا، و أحيا ذكرى حطّين و القادسية وقضى على أحلام الاستعمار بعد أن ظنّ أنها حقيقة أكبر من الحقيقة ذاتها.. و ليس غرضي من هذه السطور سرد وقائع بطولية يتشدّق بها القعدة ممّن يعيشون على فتات المجد حين عجزوا أن يكونوا آسادا، و لا ترجيح روايات تاريخية، أو تصوير ما أتخيّله و أشتهيه لحوائج في أنفسنا، و إنّما بغيتي رضا الله بأنْ نستخلص العبر لينتفع بها أولا من يجاهد لأجل تخليص دينه و أرضه و لغته من يد الأعادي كإخواننا في فلسطين و العراق و غيرها من الأقطار، ثم للأجيال اللاحقة ليروا معاني القوة من خلال استقراء التاريخ و استنباط الأحكام منه و نأيا بهم عن زحمة السرد الجاف.. فهذه بضع بصائر لمحها قلمي و تركت بعضها حذر التطويل، و ما لي أن لا أسطّرها "فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها" و الله أسال التوفيق و السداد: