والكثير اليوم يحسب أن جمعية العلماء المسلمين لم يكن لها يد في تحرير الأرض، جاهلين أنّ الأرض لا يحرّرها إلا إنسان حرّ بنفسه، و متناسين أنّ الإنسان في هذا القطر كان أحد رجلين –إلا ما رحم ربي-، إما مثقّف ثقافة فرنسية، يرضع من ثديها و يهتدي بثقافتها و يتكلم بلسانها، و بينهما من البرّ و العطف ما بين الابن و أمّه، و إمّا أُمّيّ سحقه الفقر و اعتقد الخرافات و أشرب بها قلبه، يحسب أنّ الدين الكامل هو ما يجده عند الطرقيين الذين اتخّذتهم فرنسا عونا لها، فقد فتحت ذراعيها للطرقية تحضنها و تتّخذها عصا تضرب بها ساق نهضة الإصلاح، حتّى أنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد تعرّض لمحاولة اغتيال من العلويين، ورمي الشيخ البشير الإبراهيمي بالحجارة في تلمسان من غلمانهم، و كان التواطؤ بينهما مكشوفا و تتكلم عنه حتى وسائل إعلامهم، فقد جاء في جريدة 'لوبرتي بارزيان' الناطقة بالإفرنسية :"إنّ الطرق الصوفية تملك السلطة الروحية التي يمكن أن تكون مفيدة أو ضارّة لفرنسا تبعا لطريقة استخدامها و لكن الطرقيين كانوا حتى الآن من أحسن معاونينا...".
قد وقفت جمعية العلماء كجدار صلب في وجه الإدماج و تذويب الهوية و نشرت العلم و الهدى و النور و بنت المدارس و أسّست الصحف الإصلاحية و حاربت الشرك و البدع و سوء المعاملات، و قد عكف عبد الحميد بن باديس على تفسير كتاب الله لربع قرن من الزمن و من أوّل ما درّسه من الكتب كتاب "الشفا" للقاضي عياض، فكان بذلك طبيبا سلفيا سقى أمّته من الشفاءين، كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلّم، و قد بلغ عدد طلاّبه في عام من الأعوام إلى ألف طالب أتوه من جميع ربوع الوطن، و ممّا كان يقوله لهم:"إن الشعب المتعلّم لا يُستعمر" و من المأثور من كلام الإبراهيمي قوله:" الأمّة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون"، و كان تخطيطهم لأكثر من إخراج العدو و عودة الاستقلال، لجزائر لا تغيب عنها شمس الهدى و العلم قطّ، يسيرون في ذلك كلّه على نور من الله، يتمثّلون بقول شاعرهم:
و نحن الرجال الثابتون عقيدة **** على المبدأ الأسمى إلى حين نقبر
و من زعم أنّ جمعية العلماء لم يكن الجهاد من أهدافها، فإمّا هو جاهل بأصول الجهاد و أنّه مرتبط بمنطق القوة في الزمن المناسب، و ليس بمنطق:"ايتنا يا مبارك بحمارك لنلج المعارك" أو أنّه لا يعرف جمعية العلماء و لم يقرأ لابن باديس مثل هذا القول: " قلّبْ صفحات التاريخ العالمي وانظرْ في ذلك السجّل الأمين هل تجد أمة غُلبت على أمرها ، ونكبت بالاحتلال ورزئت في الاستقلال ثم نالت حريتها على منحة من الغاصب وتنازلاً من المستبد ومنّة من المستعبد .. كلاّ، فما عهدنا الحرية تعطى، إننا عهدنا الحرية تؤخذ، وما عهدنا الاستقلال يوهب ويُمنح، إنّنا علمنا الاستقلال يُنال بالجهاد والاستماتة والتضحية ، وما رأينا التاريخ يسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد ، وإنما رأيناه يسجل خيبة للمستجدي."، و كذا قول كاهن الشّعر و هو يستنهض أبناء البلاد و ذلك سنة 1937، فتأمّل ! :
فقم يا ابن البلاد اليوم و انهض **** بلا مهل فقد طال القعود
و قل يا ابن البلاد لكل لص **** تجلّى الصبح و انتبه الرقود
فخض يا ابن الجزائر في المنايا **** تظللك البنود أو اللحود
ولقد صدق و برّ العوام عندنا بما يشهدون به كمثل سائر بينهم:"غرسها العلماء، و نهض بها الزعماء، و سرق ثمرتها العملاء"، فإنّ هذه الحقيقة أضحت في القرون المتأخّرة من البدهيات المسلّم بها، و مثله حدث في مصر من قبل، حين قام بالثورة علماء و طلابّ الأزهر، ثمّ بعد الخروج من المحنة أُزْرِيَ بالأزهر و أهله، فما عاد يوجّه إليه إلا من سدّت كل الأبواب في وجهه، و العامل فيه يكاد يدفعه راتبه الهزيل للتسوّل..!!
و لكنّ الحقّ الذي لا مشاحّة فيه أن الثورة هي ثروة لأقوام، و ورْثة لآخرين، فهي ثروة بقيمتها الحضارية و مُثُلها الفكرية التي انطلاقا منها تبنى أصرحة المجد، و إمّا وَرْثة لآخرين يتكسّبون منها و يأكلون من أذنابها.