الاستقلال يؤخذ غلابا ولا يعطى بالرضيّة:
بعد أحداث الثامن ماي الفظيعة و التي راح من ورائها أكثر من أربعين ألف جزائري حين خرجوا مطالبين فرنسا بالوفاء بوعدها الذي قطعته بأن تمنح الجزائر استقلالها إن هي انتصرت و حلفاؤها في الحرب العالمية الثانية، فما كان منها إلا أن تجازي الإحسان بالعدوان، و تقتّل هذا الكمّ من البشر، و الثامن ماي هو "يوم مظلم الجوانب بالظلم، مطرز الحواشي بالدماء المطلولة، مقشعر الأرض من بطش الأقوياء، مبتهج السماء بأرواح الشهداء، خلعت شمسه طبيعتها فلا حياة و لا نور، و خرج شهره من طاعة الربيع فلا ثمر و لا نوْر، و غبنت حقيقته عند الأقلام فلا تصوير و لا تدوين.."، و حينها تيقّنت كل طبقات الشعب أن الحرية و الاستقلال لا يؤخذان إلا بالقوة كما دخلت فرنسا بمنطق القوّة أول مرّة، و البادئ أظلم، و ما زاد اليقين رسوخا هو فشل الحزبية و صراع السياسة و تقاتل الأفكار، و كذا وصول أنباء انهزام فرنسا في معارك أخرى في العالم، فزالت أسطورة أنّ فرنسا قوة التي لا تقهرها أمة مستضعفة، فكل هذا هيّأ النفوس للانفجار و حمل راية الجهاد ضد العدو.
ذرِ الخوف تعرف ثنايا السلوك **** فمن هاب خاب و ضلّ الثنيّه
رأيت المنايا سبيل المنى **** فخاطرْ تصبْ مُنْية أو منيّه
إذا زلزلت بالخطوب البلادُ **** فلا خير في حذر أو تقيّه
تولى زمان الرضى بالهوان **** ووافى زمان الفدى و الضّحيّه
أنصلى الجحيم، و نسقى الحميم **** و نرعى الوخيم، و نعطى الدنيّه
و من حولنا تستباح الدّيار **** و يخزى الصبيّ بها و الصبيّه
أتخضع للضّيم يا ابن الأباة **** و تطرق مستسلما للأذيّه
أما في عروقك أزكى الدّما ؟ **** أما في فؤادك أذكى الحميّه
و لا تنتصر للبكا بالبكا **** و تبدِِ الشكيّة عند الشّكيه
إذا كان كفّك غير سخيٍّ **** فماذا تفيد الدموع السخيّه ؟
و نفسك بعها مع البائعين **** كرام النفوس لباري البريّه
ونأسف أن نقول: لا يزال من هو من رحم هذه الأمة يحسب أن العدوّ الذي دخل ظلماً قد يعود من حيث أتى بالجلوس إليه على موائد للخيانة لإقناعه بحقيقة حقّنا الذي يجعله هو خرافة قد ولّت، و أقصى ما قد يصل إليه أن يمنحنا وعودا زائفة، و يجعل هو من خرافته حقيقة واقعية، و تُجعل معه قضايا العقيدة والأرض واللغة و التاريخ محلاّ للمساومات و التنازلات، و لسنا بحاجة لأن نجرّب كرّة أخرى، فلنا من الشواهد التاريخية ما يغنينا عن التجربة، و لنتيقّن من مبدأ القوة لاسترجاع ما أخذ منّا بالقوة عنوانا للنضال، و هؤلاء الرجال هم الذين بقوا من الأمس إلى اليوم ينخدعون بما انخدعت به أمم قبلهم من مفاوضات و معاهدات و مجاذبات سلبية خربة خراب ذمم اليهود و أشياعهم في العالم.
جني غرس العلماء:
لقد كان العلماء على مرّ التاريخ هم زرّاع الخير و سقاة المغارس في هذه الأمة، و ما كثروا إلا كثرت البركة فيها، و ما نقصوا إلا كان أمرها ذا خطر، و جعلت مرصدا لكل سائمة ترومها بشرّ، فتبلوها و لا تجد من يدفعها عنها كما يدفعها عنها العلماء إذا حزبها أمر في دينها أو دنياها، و هذا ما علمه المستدمر لا المستعمر، فعمل على التضييق على العلماء الصادقين، حتى رحل أغلب علماء الجزائر من النوابغ إلى المشرق، بعد أن امتحنوا و زلزلوا زلزالا عظيما، فبقيت الدّيار خاوية على عروشها من آثار العلم إلا من بقايا بعض الكتاتيب هنا و هناك، إلى أن أتت جمعية العلماء، فكانت كنفحة ربّانية بعثت الحياة في هذا الرجل المقبور حيّا بعد أن ظنّت فرنسا أنّه قد لفظ أنفاسه الأخيرة منذ أمد و لا رجعة له للحياة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، و لكنّ ظنها قد خاب و خسر، كما سيخيب و يخسر ظنّ من يحسبون أن حياة الأمم و قيام الحضارات لا يكون إلا بالمادّة –ترتفع بارتفاع سعر البترول و تنزل بنزوله- بعيدا عن الروح و ما يكون به صلاحها و قوامها.