المصغر في اليوم الثالث لحرب تشرين الأول 1973. الوثائق التي نشرتها الصحف الإسرائيلية أمس تكشف كيف أن «التخبط» الذي كان سائداً على المستوى السياسي لم يكن سوى مرآة للتخبط على المستوى العسكري.
كان «الاستخفاف بالأعداء وقوتهم»، بحسب اعتراف القادة الإسرائيليين آنذاك، عنصراً «فاجأت به إسرائيل نفسها سلباً، أكثر مما فاجأها العدو نفسه»، والتعبير لـ«هآرتس».
الحال السياسية الإسرائيلية لم تكن أفضل حالاً، ما استدعى رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مئير، إلى اقتراح فكرة «مجنونة»، بحسب توصيفها، تنص على استجداء مساعدة عسكرية من واشنطن، «واستدرار عطفها»، أو حتى التلاعب بها، فيما اقترح آخرون في القيادة منح الأميركيين «صورة مجزأة وزائفة» عن وضع إسرائيل «الصعب»، في حرب قد «تطول جداً».
وتحت عنوان «غولدا فكرت بخطوة مجنونة ضد سوريا»، ذكرت «هآرتس» أن الوثائق التي سمح بنشرها، تكشف كيف أن «القيادة السياسية الإسرائيلية (آنذاك) فكرت بهجوم وقائي مسبق على سوريا ومصر»، كما كشفت الوثائق عن «العلاقة الوثيقة التي كانت بين ملك الأردن (الراحل) حسين والقيادة الإسرائيلية عشية الحرب».
وتروي الوثائق أيضاً كيف اقترح وزير الدفاع آنذاك موشيه ديان «التجنيد حتى لكبار السن بعد سن الاحتياط، واليهود من خارج إسرائيل. كما أنه اقترح الهجوم المسبق على سوريا ومحيطها بشكل غير مسبوق، حتى ولو بثمن إصابة المدنيين والضربة المضادة على تل أبيب. وفكر المجلس الوزاري أيضاً بالتجنيد للتدريب لشبان في عمر أقل من 18، كي يكونوا مستعدين للحرب إذا ما طالت جداً».
ولفتت «هآرتس» إلى أن القيادة الإسرائيلية «علّقت آمالها على حلول الشتاء، ليساعد (إسرائيل) على الأقل على الجبهة السورية»، مشددةً على ان القرار كان «قاطعاً» و«لا لبس فيه»، فإن إسرائيل، «عناداً»، ماضية للحرب، و«الاستسلام ممنوع».
كما تكشف الوثائق «عدم الاكتراث الاسرائيلي بالقدرة العسكرية للجيوش العربية». ونقلت «هآرتس» عن الوثائق كيف أن «رئيس شعبة الاستخبارات ايلي زعيرا قدر في صباح يوم الغفران بأن (الرئيس المصري الراحل) انور السادات لن يتجرأ على شن حرب ضد إسرائيل. ورغم أنفه، وخلافا لتوصية وزير الدفاع موشيه ديان، قررت رئيسة الوزراء مئير تجنيد 200 ألف جندي احتياطي، لوضع قوة معتَبَرة تحت التصرف، تحسباً لاندلاع حرب».
اما أهم ما كشفت عنه الوثائق التي نشرتها الصحيفة الإسرائيلية أمس هو «كيف بذلت مئير، لاحقاً، مع قيادة جهاز الأمن جهوداً عظيمة لتلقي مساعدات أمنية كبيرة من الولايات المتحدة، تضمّ 40 مقاتلة من طراز فانتوم، و400 دبابة»، مشيرةً إلى أن «مئير فكرت بالسفر للقاء سري للغاية، لمدة 24 ساعة، مع الرئيس الأميركي (آنذاك) ريتشارد نيكسون، دون اطلاع حكومتها، في محاولة لإقناعه بمساعدة إسرائيل في الحرب».
في هذا الإطار، كشفت الوثائق المؤرخة في «7 تشرين الأول 1973، في تمام الساعة التاسعة و10 دقائق»، كيف «أجرت مئير نقاشاً هدفه بحث كيفية ربط الإدارة الأميركية بجهود المساعدة لإسرائيل في مجلس الأمن، ومنع قرار بوقف إطلاق النار يضرّ بإسرائيل».
وقد اقترح اللواء يريف على مئير «إرسال اسحق رابين إلى الولايات المتحدة، كي يشرح لوزير الخارجية هنري كيسنجر تقدّم الحرب ووضع إسرائيل الصعب»، ثم عُرضت اقتراحات بأن يعرض رابين على كيسنجر «صورة جزئية وزائفة تقدم صورة غير حقيقية عن وضع إسرائيل الصعب، وذلك من أجل كسب عطف الإدارة». لكن مئير رفضت الاقتراح، وقالت: «يجب أن نضيء له المصباح وان نمنحه الصورة الحقيقية. لا يمكننا أن نلعب معه لعبة الغميضة».
ثم اقترحت مئير فكرة وصفتها بـ«المجنونة»، وهي «التوجه إلى واشنطن في مهمة سرية ليوم واحد، من دون علم الحكومة، لأضع نيكسون أمام خطورة الوضع»، و«يحتمل أن (نستدرّ) العطف فقط. ويحتمل أن تثور لديه العزة الذاتية، حيال ما يقوم به (الروس)». وأوضحت الوثائق كيف أن مئير «لا أعد نفسي بالنجاح، ولكن يخيل لي انه باستثناء العملية العسكرية، يخيل لي، دون تباهٍ، بأن هذه هي الورقة الأساس التي يمكننا ان نستخدمها مع الأميركيين، وهذا كفيل بأن ينجح»، بمعنى ابتزاز الأميركيين عاطفياً، لجهة استفزاز العزة لدينا، باستخدام الورقة الروسية.
وفي شأن متصل آخر، تتحدث الوثائق عن أن القيادة الإسرائيلية «تعاطت بجدية مع الإنذار» الذي نقله من وصفته «هآرتس» بأنه «المصدر الاستخباراتي الأكبر لإسرائيل في مصر أشرف مروان»، وكذلك مع «حقيقة أن الروس (بدأوا آنذاك في) إخراج أسرهم من سوريا ومصر».
وتروي الوثائق كيف قرأ رئيس الأركان دافيد اليعيزر على مسامع مئير «برقية رجل تسفيكا. الرسالة أصلية. بالنسبة لنا هذا إنذار قصير جداً. إذا هاجموا (السوريون والمصريون) بعد عشر ساعات، نحن جاهزون مع الجيش النظامي، ولكننا لم نجند الاحتياط على الإطلاق».
ثم أوضح الوزير إسرائيل جليلي أن «مصدر تسفيكا يقول انه يمكن إحباط الحرب من خلال التسريب (الذي يكشف مؤامرة الهجوم ويحرج مصر وسوريا). ويقترح تسفيكا محاولة ذلك». ولم ترفض مئير الفكرة، وتساءلت: «ماذا سيحدث، إذا أخذنا حقا بمشورة هذا الصديق (أشرف مروان)؟ لماذا لا نبادر نحن إلى الإعلان، عبر هيئة الإذاعة البريطانية وقناة سي.بي.اس. وغيرهما، عن أن الروس يخلون سوريا ومصر»، بهدف «تدمير عنصر المفاجأة» لدى سوريا ومصر.
ثم تحدثت الصحيفة، نقلاً عن الوثائق، عن حالة «عدم الاكتراث» أو الاستخفاف بقدرة «الأعداء» قبيل الحرب. حيث يصف رئيس الاركان بأنه «من الناحية العملياتية، نحن قادرون اليوم في الساعة 12:00 على إبادة سلاح الجو السوري بكامله. ونحتاج بعد ذلك إلى 30 ساعة أخرى لنصفي منظومة الصواريخ. إذا كانوا يعتزمون الهجوم في الخامسة، في هذه الساعة سيعمل سلاح الجو بحرية ضد الجيش السوري. وهذا مغرٍ جداً».
أما «رئيس شعبة الاستخبارات ايلي زعيرا، فأظهر شكا كبيرا بجدية نوايا الرئيس المصري أنور السادات». وقال «رغم حقيقة أنهم مستعدون، برأيي هم يعرفون أنهم سيخسرون. والسادات اليوم ليس في وضع يكون فيه مضطراً للقيام بحرب. كل شيء جاهز، ولكنه يعرف بأن الميزان (القوى) لم يتحسن».
ووفقاً لـ«هآرتس»، تدلّ الوثائق على أن القيادة الإسرائيلية لم تكن «على بينة» من موقف الأردن من الحرب، وما إذا كان «سينضم إلى المعركة ضد إسرائيل، وإذا كان سيستجيب للطلبات المصرية ويسمح باستخدام أراضيه لوضع الرادارات التي تساعد القوات المصرية في القتال ضد إسرائيل»، حيث قالت مئير، في 8 تشرين الأول 1973، ان الملك الأردني «أبلغنا اليوم مرتين بأنه أُسقط لنا طائرات. اعتقد أنه يُسقط الطائرات في الكلام، ولكنه لن ينفذ. السادات يضغط عليه، والأسد يضغط عليه»، آملةً بأن «يكتفي بالكلام». أما ديان فكان «واثقاً بأن الأردن سيدخل الحرب»، داعياً إلى «إعداد قوة ضد محاولة أردنية لاقتحام الضفة».
أما بشأن الهجوم «الوقائي»، فنقلت الصحيفة الإسرائيلية عن الوثائق كيف «قالت مئير: بالنسبة للضربة الوقائية، من ناحية جوهرية لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بعمل ذلك هذه المرة. فقط إذا هاجمت مصر، يمكننا أن نضرب السوريين».
ففي 9 تشرين الأول 1973، أعرب وزير الدفاع ديان عن ثقته في قدرة القوات الإسرائيلية على «حسم المعركة مع سوريا»، كما طلب قصف أهداف في دمشق، قائلاً «لدينا أوامر: لن ننسحب من الجولان. سنقاتل حتى الموت على ألا نتحرك».
وهو يروي، في الوثائق، لرئيسة الوزراء «ما أقترحه واطلب المصادقة عليه: قصف داخل دمشق». ردّت مئير: «داخل المدينة؟». فأجاب ديان: «داخل المدينة وفي محيطها. لكسر السوريين. ليس لدى ددو القوة للسير براً إلى دمشق. ليس لدينا طابور، ولا حتى للتضليل»، وكل ما «لدينا دبابات تتآكل».
وشرح ديان قراره بالهجوم على أهداف مثل هيئة الأركان السورية أو منشآت البنية التحتية في دمشق، حيث «سرنا حتى الآن ما يكفي على الحقول في دمشق. لم تعد توجد أهداف هامة. الهدف الأهم هو دمشق. لا يمكن أن نقول إن السكان لن يصابوا بأذى». وتدخل اليعيزر آنذاك «هناك، قصف كثيف هنا، على مقر القيادة العسكرية، في ريدنغ وفي رمات أفيف، وهذا يشوّشنا جداً».
اما في الوثائق التي نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فيتبيّن أن ديان كان قلقاً بشأن «موازين القوى»، معترفاً بـ«أنني لم أقدر بما فيه الكفاية قوة العدو، وزنه القتالي، وبالغت في تقدير قواتنا وقدرتهم على الصمود. العرب يقاتلون أفضل بكثير مما في السابق. لديهم سلاح كثير؛ وهم يضربون دباباتنا بسلاح شخصي. الصواريخ، مظلة صعبة لا يمكن لسلاحنا الجوي تحطيمها. نسبة النجاح في إصابة الصواريخ تصل إلى 70 في المئة، ولكن في الليل سيجلبون صواريخ جديدة. لا أدري إذا كانت ضربة وقائية كانت ستغير الصورة بشكل جذري».
وفقاً للوثائق التي نشرتها «يديعوت»، استعرض ديان، بالأرقام «الصحيحة» دلائل عن «مشكلة موازين القوى الصعبة جداً»، وقال «لدينا 800 دبابة؛ لدى المصريين 2000 دبابة. ولدى السوريين 1500 دبابة، ولدينا 500 دبابة. وفي الجو: لدينا 250 طائرة؛ ولدى المصريين 600؛ ولدى السوريين 250»، كما «أنهم مقاتلون جيدون، ولديهم مظلة جيدة من الصواريخ».
واعتبر أن «المشكلة (التي تواجهها إسرائيل في المستقبل) تكمن في مسألتين: الأولى هي أن العرب لن يوقفوا الحرب، وإذا ما خسروا ووافقوا على وقف النار، فإنهم كفيلون بفتحها من جديد... وإذا انسحبنا من هضبة الجولان، فهذا لن يحل شيئاً». أما المشكلة الثانية فتكمن «في المعدّات»، داعياً إلى اللجوء إلى الأميركيين «لشراء 300 باتون، إذ نحتاج على مزيد من الطائرات. لديهم معدات في أوروبا. كما أننا ننفد من رجال المدرعات. يجب أن نكون مستعدين لحرب طويلة».
كما تحدثت «هآرتس»، عن «تردد» مئير بين موقف رئيس الأركان الذي دعا إلى تجنيد كامل للاحتياط، وبين موقف وزير الدفاع، الذي طلب تجنيداً لقوات محددة العدد فقط»، حيث قال وزير الدفاع ديان لرئيسة الوزراء: «اذا صادقتِ على تجنيد كبير للاحتياط، فلن أستقيل، ولكن توصيتي هي تجنيد كل سلاح الجو، وتجنيد فرقة للشمال وفرقة للجنوب. في الليل سنرى إذا كان يتعين أن نجند (المزيد) وسنجند».
واستقت «هآرتس» مما كشفته الوثائق الإسرائيلية «درساً» للحاضر. وفي افتتاحيتها التي حملت عنوان «جرح قديم.. درس حديث»، وصفت «هآرتس» تلك الحرب بأنها كانت «تجربة عسيرة، قد تكون الأكثر عسراً في تاريخ إسرائيل».
وبعدما أشارت إلى أن نشر الوثائق جاء «متأخراً»، دعت «هآرتس» إلى «دراسة» هذه الحرب، واستخلاص العبر منها، ومن «فقدان البصيرة، وعدم الاكتراث والأخطاء في التقدير وفي الاستعداد» التي كانت سائدة إسرائيلياً، قبيل 6 تشرين الأول 1973.
وحكمت الصحيفة على «مئير ودايان واليعيزر وشركائهم المنتخبين في القيادة والضباط على حد سواء»، بأنهم «فشلوا في أخطاء مصيرية في فهم قيود قوة إسرائيل، تكتيكات الأعداء المحتملة»، آخذةً على إسرائيل أنها «ارتاحت لإنجازاتها العسكرية» وخاصة «احتلالها (للأراضي العربية) منذ حزيران 1967»، مبدية «استخفافاً بالطرف الآخر. ففاجأت نفسها سلباً أكثر مما فاجأها هو»، أي العدو.
وختمت «هآرتس» افتتاحيتها بدعوة حكومة بنيامين نتنياهو، حيث «يوجد وزراء شهدوا تجربة حرب يوم الغفران، ويجلسون اليوم مكان مئير، وديان وزملائهما»، إلى تحمل مسؤولية «تفضيل السلام، في تسوية وسط، على الجمود المحمّل بالحرب».
(«السفير»)