نادر عزالدين
منذ
بداية الأحداث في سورية وحتى اليوم، جهدت الولايات المتحدة الأميركية بألا
تتعدى تصريحات مسؤوليها خطوطاً حمراء كانت قد وضعتها إدارة أوباما لنفسها،
فلم تمس بالرئيس السوري بشار الأسد شخصياً ولم تطالبه بالرحيل أصلاً، بل
حرصت دائماً على دعوته إلى قيادة الإصلاحات في بلاده، عكس فرنسا مثلاً التي
اعتبرت أن العلاقات مع الأسد وصلت إلى نقطة اللاعودة. وقد برز في الآونة
الأخيرة ازدواجية واضحة في السلوك الأميركي، فمن ناحية تتغزل بالأسد إن كان
على لسان بعض الموفدين أو من خلال تعاطي إعلامها مع الواقع القائم في
سورية والمؤيد للرئيس السوري، ومن ناحية أخرى تدعم معارضي الرئيس السوري
وتزودهم بكافة حاجاتهم من مال وسلاح وتحرّك العالم للوقوف إلى جانبهم، لا
بل يزور سفيرها محافظة حماه للوقوف إلى جانب العصابات والمشاركة في
تظاهراتها دون إذن من وزارة الخارجية السورية، مما يعتبر انتهاكاً واضحاً
للمادة 41 من معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية التي تتضمن وجوب عدم
التدخل في الشؤون الداخلية للدول المعتمدين لديها، على أن يتم بحث المسائل
الرسمية مع وزارة الخارجية.
لا عجب في هكذا ازدواجية خاصة إن علمنا أن
الإدارة الأميركية قد قررت فتح حوار مباشر مع النظام السوري بعد الفشل
الذريع الذي أصاب المشروع الغربي وعجزه عن إسقاط نظام الأسد، ولكن كيف يمكن
لأميركا أن تفاوض الأسد من جهة وتدعم معارضيه من جهة أخرى؟
الجواب بسيط، فالأميركي كعادته عندما يذهب
إلى التفاوض يسخّر كل الأوراق التي يملكها بين يديه، فيزيد من دعمه
للعصابات في سورية، ويصدر الدفعة الأولى من القرار الإتهامي في لبنان
مهدداً بتوسيع رقعة الإتهامات التي أصبحت غب الطلب، ويحرّك خيوط الفتنة في
لبنان ويشجع جماعته للمزيد من التصعيد على قاعدة أنه ذاهب إلى المواجهة لا
إلى التفاوض وسينفي بالطبع أي معلومات تتحدث عن التفاوض، وهكذا سيزوّد
أطراف المعارضة السورية العاملة تحت رايته بالمال والسلاح والإمكانات
ويدفعها للمضي قدماً نحو المواجهة.
ولو عدنا إلى العام 1983، يمكننا
الاستفادة من تجربة رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميّل حين كان يزور
واشنطن. ففي ذلك الوفت التقى الرجل برونالد ريغن وجورج شولتز وروبرت
ماكفرلن، وعاد بعدها ليلتقي بمجموعة تابعة لمركز دراسات جامعة ميريلاند،
وحين سُئل عن حصيلة مشاوراته أجابهم أن أميركا ذاهبة إلى الحرب مع سورية.
وبعد أشهر معدودة كان الأميركيون يسحبون قوات المارينز من لبنان، وصدف مجيء
مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلن إلى مركز الدراسات نفسه،
فسأله الأشخاص نفسهم عن الذي يجري، ناقلين إليه ما قاله لهم الجميّل عن
ذهاب أميركا إلى معركة كسر عظم مع سورية فإذ بها تذهب إلى التفاوض، فأجابهم
ماكفرلن: "نحن نعرف الذين يشتغلون معنا جيداً، لو قلنا لأمين الجميّل أننا
ذاهبون إلى التفاوض لسبقنا إلى دمشق، نحن نستخدمهم لنفاوض نحن". وما تفعله
أميركا اليوم بالقرار الظني وببعض المعارضة السورية العاملة تحت لوائها
ليس سوى نسخة عما فعلته مع أمين الجميّل.
أميركا تباشر المفاوضات مع نظام الأسدفي
هذا السياق يرى النائب السابق ناصر قنديل أن "الحديث عن طبيعة العلاقة
الأميركية السورية في هذه اللحظة من المواجهة الدائرة حول مستقبل سورية ليس
خبراً عادياً، ونستطيع أن نتحدث عن معلومات دقيقة ومؤكدة عن بدء تبدل
الموقف الأميركي في التعاطي مع سورية وبدء التنافس على المسارات التفاوضية
مع سورية بين محورين: الأوروبي التركي القطري من جهة، والأميركي من جهة
أخرى. ومن الواضح أن الأميركيين الذين كانوا وراء تحريك المحور الفرنسي
التركي القطري لاستهداف سورية ورعاية المجموعات الأمنية والسياسية
والإعلامية التي شكلت رؤوس الهجوم على الوضع الداخلي في سورية، ذهبوا
للتفاوض تاركين حلفاءهم خلفهم، ويبدو أن الأتراك والقطريين والأوروبيين قد
استشعروا هذا التحوّل الأميركي من جهة والاعتبارات التي أدت إليه، وعلموا
أن الأميركيين يعيدون النظر باستكمال الهجوم".
فشل الإبهار الإعلامي والرهانات على تفكيك الجيشوللتحوّل
الأميركي أسبابه فقد بات واضحاً بحسب قنديل "أنّ الضخ الإعلامي الذي واكب
الوضع الداخلي من جهة والضغط الذي مورس على مستوى الآلة الأمنية التي تحركت
للتخريب والرهانات على تفكيك وحدة الجيش السوري والمس بقدرته على التماسك
في مواجهة الأحداث، قد سقطت. وكل هذا أخذ وقته في اختبارات السوريين لتكوين
روايتهم الخاصة وحقيقتهم الخاصة عما يدور في بلدهم بالرغم من الإبهار الذي
تمتع به مشهد الثورات العربية. فنكتشف مع حصيلة ثلاثة شهور أنّ رواية
الرأي العام السوري بأغلبيته الكاسحة باتت أقرب بكثير إلى رواية النظام،
بمعنى أن المشكلة الأساسية التي تواجهها سورية هي مواجهة مع مجموعات منظمة
ومسلحة ومتطرفة تريد إقامة إمارات متطرفة في العديد من المواقع السورية،
وبدا أيضاً للسوريين بأن القنوات الفضائية التي بنت مصداقيتها على الصداقة
مع سورية وخيار المقاومة وأرادت استثمار هذه الصداقة من أجل دس السم في
العسل وتمرير رواية مجافية للحقيقة عما تشهده سورية، بل تحوّل هذه القنوات
إلى غرف عمليات منظمة لغسل عقول السوريين وكي وعيهم قد حدد السوريون موقفهم
منها".
التلويح بالفيتو الروسي – الصينيكما
أن الرهان على إخضاع سورية بمجموعة ضغوط دولية وعقوبات تهز استقرارها
الاقتصادي وتحرّك شرائح إضافية لمواجهة النظام انطلاقاً من هذا العبث
بالاقتصاد السوري، قد وصل إلى طريق مسدود بعد اختبار الشهور الثلاثة التي
مرّت. حيث بات ثابتاً بأنّ "روسيا لن تتراجع عن قرارها باستخدام حق النقض –
الفيتو في حال طرح أمر سورية على مجلس الأمن، ولن تكون روسيا منفردة، بل
بات واضحاً أن هناك ما يسمى بمجموعة الدول المستقلة في العالم التي تتضافر
وتتكامل في جهودها لمواجهة هيمنة القرار الأميركي على الساحة الدولية،
فنشهد أنّ الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا بالإضافة إلى روسيا والصين ولبنان
والأرجنتين، بينها دول لا تربطها علاقات متميزة على المستوى الاقتصادي أو
السياسي بسورية إنما مواقفها نابعة من معادلة دولية جديدة اسمها تضافر جهود
الدول المستقلة لصد مشاريع الهيمنة الأميركية على القرار الوطني المستقل".
إذاً نحن أمام سبعة أصوات من أصل 15 صوتاً
في مجلس الأمن ترفض المشاركة في أي جلسة من أجل فرض عقوبات على سورية
وبالتالي حتى النصاب غير متوفر لعقد جلسة وهو 10 أعضاء على الأقل بالإضافة
إلى أنه في حال توفّر النصاب فهناك صوتا فيتو جاهزان لتعطيل أي قرار.
الأتراك والقطريون والفرنسيون "يعضون" أصابعهم ندامةبناءً
على هذه التطورات وغيرها تأكد الأميركي من أن نظام الأسد قد تجاوز اللحظات
الصعبة في المخطط التي دبّر له ليكون في وضع ضعيف لا بل استرد زمام
المبادرة، وأن سورية اليوم تتهيأ لتكون أقوى مما كانت عليه قبل الأزمة،
خصوصاً مع القرارات التي أخذها الرئيس السوري باتجاهات إصلاحية تجاوزت ما
كانت تطلبه قوى المعارضة التي تسعى للإصلاح، وتحديداً عندما أعلن أنّ
الحوار لا يتضمّن أي قيد أو شرط على أي فئة، بل ذهب إلى أكثر من مرسوم عفو
عام من أجل تسهيل انضمام المعارضين الملاحقين من الدولة ليتمكنوا وليتسنى
لهم المشاركة في الحوار. كما أعلن من جهة أخرى أن الدولة السورية القادمة
يمكن أن تتجاوز في تطلعاتها مجرّد تعديل الدستور وإصدار قوانين انتخابات
وأحزاب وإعلام جديدة إلى مستوى تشكيل هيئة تأسيسية لصياغة دستور جديد في
البلاد.
وبعد ما تقدّم، يقول قنديل: "لم يعد يستطع
الأميركي والأوروبي والتركي والقطري التصرّف وكأن شيئاً لم يتغيّر في
سورية وأننا لا نزال على أبواب أحداث درعا قبل ثلاثة شهور، فالشعب السوري
اليوم متماسك مع رئيسه، وكذلك الجيش والقوى الأمنية، أما المجتمع الدولي
فمنقسم حول الموقف من دمشق بصورة تعطّل إمكانية استخدام مؤسسة مجلس الأمن
للانقضاض على سورية، وهذا يعني أن سورية تجاوزت الجزء الأصعب والأخطر من
الأزمة".
إذاً الأميركي الذي حرّك وحرّض وجهّز هذه
الثنائية التركية – القطرية ثم حولها إلى ثلاثية بإضافة فرنسا، استخدمهما
كالعادة من أجل التصعيد، وعندما حان وقت التفاوض ذهب وحده للتفاوض، والآن
الأميركي، والكلام لقنديل، "قد بدأ التفاوض مع سورية، ولكن التفاوض يتم هذه
المرة من موقع السقف المنخفض لأن سورية في الموقع الأقوى ومشروع الاستهداف
في الموقع الأضعف، وأعتقد أن الأتراك والقطريين والفرنسيين بدأوا يعضون
أصابعهم ندامة على تورطهم في مشروع استهداف سورية".
ورغم هذا الانفتاح الأميركي، نلاحظ بأن
النظام السوري متمسك بالسير بالإصلاحات،وفي هذا خير دليل على أن هذا النظام
لا ينظر إلى الإصلاحات على أنها استجابة لروزنامة خارجية، ولا يعتبرها
مشروعاً لفك الجبهة الدولية التي أراد الأميركيون إنشاءها بوجه سورية، بل
من منطلق أنها استحقاق داخلي تريده القيادة السورية مدخلاً من أجل تغيير
معادلة الداخل بصورة تجعلها أكثر مناعة وقدرة وقوّة.