حرب اكتوبر 1973 الجزء الرابع

لقد أفضت كل هذه المعطيات إلى حالة من الجمود والسكون على مختلف الجبهات أحرجت الأنظمة العربية المعنية بالتسوية وخاصة النظام المصري والسوري اللذين أوقفا القتال على مختلف الجبهات دون تحقيق تقدم ملموس حيث لم يجد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ما يدفعها إلى الإسراع بتطبيق مشروع روجرز. وهو ما دفع بهما إلى اعتماد المناورة و التظاهر بالإعداد للتحرير من خلال الإعلان عن اتحاد شكلي مع النظام الليبي كتمهيد للمعركة، وفي هذا الجو السائد وجد النظام الأردني الفرصة ملائمة للإعلان عن مشروعه المعروف بالمملكة العربية المتحدة سنة 1972 والذي يستهدف القضية الفلسطينية نهائيا.

ونظرا لخطورة مسار الأحداث بادرت القيادة العراقية للإعلان عن مبادرتها الحاسمة والقائمة على مشروع الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر بهدف تحقيق التحرير الشامل وفق إستراتيجية محددة وضمن برنامج سياسي واقتصادي وعسكري طويل الأمد. ومن خلال الإصرار والاستعداد الكامل من ناحية والتسويف والمماطلة من الجانب الثاني تبين أن التسوية لم تكن خيارا تكتيكيا بل نهجا ثابتا حيث اتضح مدى الاستعداد للاعتراف بالكيان الصهيوني ذاته.

نتيجة لهذه التطورات اختلت موازين القوى بين خط الثورة وميل الأنظمة الواضح لترسيخ دعائمها بربط المزيد من الصلات بالقوى الاستعمارية وخاصة الولايات المتحدة التي عملت جاهدة على إرساء هذا النهج حفاظا على مصالحها النفطية في المنطقة.

كما أن التسليم بمنهج التسوية زاد في اهتمام البلدان الغربية بالصراع العربي الصهيوني وبمشكلة الشرق الأوسط في حين تراجعت مواقف الإتحاد السوفياتي ومواقعه في المنطقة والذي عمل بدوره على تطوير علاقاته بالأنظمة الليبرالية تدريجيا.

في هذا السياق كانت ترسل الإشارات من هنا وهناك لتحريك الوضع الساكن وإنعاش محاولات التسوية من خلال الإجماع الحاصل على إدانة الكيان الصهيوني باستمراره في احتلال الأراضي العربية.

أمام هذا الوضع المتأرجح، وجد النظامان المصري والسوري ومن حالفهما من الأنظمة وعلى رأسها السعودية أمام خيارين: إما التسليم بالعجز عن تحريك الأوضاع باتجاه التحرير الجزئي أو التسوية وإما العمل على تحريك الأوضاع بعملية عسكرية محدودة.

وهو ما تم فعلا في حرب أكتوبر 1973 والتي أصبحت تعرف بحرب التحريك نتيجة ما أثبتته التطورات اللاحقة و في السياق ذاته يمكن التأكيد على أن هذا الخيار كان مرضيا للجميع أي أغلبية الأنظمة العربية والقوى الدولية وبلدان عدم الانحياز والعالم الثالث التي اتخذت من القرار 242 مرجعا محددا في تعاملها مع الصراع العربي الصهيوني وساندته الأنظمة السائرة في ذات الاتجاه. كما وفر هذا الخيار، أيضا، غطاء جيدا يحفظ ماء الوجه بالنسبة للأنظمة العربية ويتيح للولايات المتحدة الحد من إمكانات نمو المد الثوري وتعاظم قوة الأطراف الداعية إلى التحرير وزيادة نفود الإتحاد السوفياتي في المنطقة من ناحية وتدعيم نفوذ حلفائها من خلال الإيحاء بأن الانفتاح على الولايات المتحدة هو السبب الأساس في إحراز أي تقدم في صورة حصوله ولو بشكل محدود و توظيفه لمزيد تأمين مصالحها الإستراتيجية.

ورغم الملابسات العديدة التي سايرت حرب 73 كاستخدام النفط كسلاح أساسي في المعركة والحسابات السياسية والتلاعب بالقضايا المصيرية للأمة العربية، فلا يمكن التغاضي عما قدمته من نتائج إيجابية. لقد أفضت هذه الحرب إلى تفوق الإرادة العسكرية العربية وهزيمة نظرية الأمن الصهيوني التي تدعمت خاصة بعد هزيمة 67 وعلى تفنيد الأساطير التي روجتها الصهيونية والاستعمار في الأوساط العربية المشبوهة عن القدرة العسكرية الفائقة للجيش الصهيوني. كما كشفت عن الأبعاد الجديدة و الحقيقية للموقع الاستراتيجي للوطن العربي وللقضية العربية في الوضع الدولي اللذان كانا يعاملان في أغلب الأحيان بالإهمال وحتى الاستخفاف ظاهريا على الأقل.