حرب اكتوبر 1973 الجزء 3

وفي نفس السياق استطاعت الأنظمة المهزومة (مصر، سوريا، الأردن...) أن تلملم أطرافها بمسايرة رغبة الجماهير ظرفيا والتظاهر بالتغيير والعمل على مواجهة أسباب الهزيمة ونتائجها مما مكنها من الالتفاف على مظاهر النكبة ومنحها فرصة العودة لممارسة نفس الدور بالأسلوب والأداء السابقين.

أما في الطرف المقابل فقد كشفت الهزيمة على التصميم الأمريكي على هزم الأنظمة والقوى التقدمية العربية وفي طليعتها النظام المصري وترسيخ دعائم الكيان الصهيوني كقوة عسكرية حاسمة في حماية مصالحه النفطية والإستراتيجية إلى جانب القوى الرجعية العربية وهو ما أعطى الدليل على بلوغ التحالف الاستراتيجي بين الاستعمار والكيان الصهيوني أعلى الدرجات وأشدها عدوانية وشراسة، وكانت تلك نقطة الانطلاق الفعلي للتدخل الأمريكي السافر في مختلف الشؤون العربية.

هذا في حين كان موقف الاتحاد السوفياتي يتحدد في إطار التسوية السلمية القائمة على قرار مجلس الأمن رقم 242 والذي يرتبط إلى حد كبير بمواقف الأنظمة العربية المعنية مباشرة بالصراع العربي الصهيوني وخاصة النظامين المصري والسوري. ومن الواضح أنه كان الخيار الأساسي بالنسبة للإتحاد السوفياتي والذي كان يتأكد في حالات الصراع المسلح وتأكد فعلا عند قبول مصر بشكل رسمي بمشروع روجرز وفي أحداث سبتمبر 1970 وهذا يعني عمليا أن الإتحاد السوفياتي انتقل من حالة الثورة إلى منطق الدولة وككل القوى الكبرى خير الارتباط المصلحي مع الأنظمة على حساب الجماهير الشعبية وقواها الثورية المناضلة باتجاه المستقبل حتى أنه لم يسع إلى تطوير علاقاته مع المقاومة الفلسطينية التي كانت أكبر قوة شعبية عربية في ذلك الوقت.

إن الرصد الدقيق لمسار الأحداث يؤكد أن هزيمة 67 تمثل المقدمة الحقيقية لترسيخ دعائم الأنظمة القائمة بكل مكوناتها وفعالياتها البنيوية والتنظيمية العاجزة، والبداية الفعلية لتراجع خط الثورة واستغلال القوى الثورية في لعبة وتناقضات الأنظمة وحتى في صراعاتها ومؤامراتها على الجماهير الشعبية.

من هذا المنطلق كان قبول عبد الناصر والنظام الأردني لمشروع روجرز نقضا صريحا للاتفاق الناجم عن اجتماع طرابلس بين الرئيس العراقي أحمد حسن البكر والرئيس عبد الناصر والسوري حافظ الأسد والعقيد معمر القذافي...، القاضي بضرورة الالتزام بخط التحرير الكامل لفلسطين وعلى برنامج قومية المعركة إلا أن الرضوخ للمشروع المذكور هو إعلان عن إيقاف نشاط الفدائيين والقوات العسكرية العراقية على الجبهة الأردنية ومقدمة لأحداث سبتمبر 1970.

ولم يعد خافيا اليوم أن الأحداث التي تعرف بـ(أيلول الأسود) تعتبر أكبر هجمة عدوانية عنيفة بعد 67 على حركة الثورة العربية نالت تأييد الاستعمار والصهيونية وفسحت المجال للقوى الرجعية في توطيد تحالفاتها وتدعيم أركانها على حساب المد الجماهيري الثوري ليبدأ الانحدار في خط التحرر والنهضة.

ورغم بروز العراق كقوة ثورية في ما بين 1970 و1973 واتساع دائرة تأثيره على الصعيد القومي خاصة بعد سيطرته على الأوضاع الداخلية وتأميم النفط، فإنها لم تسايره حالة صعود في المناطق العربية الأخرى، بل إن الأوضاع اتخذت اتجاها معاكسا حيث شهدت هذه المرحلة اختفاء زعامة عبد الناصر التي لعبت دورا مهما في توجيه الأحداث في مصر والساحة العربية على مستوى المواجهة إضافة إلى الانجازات الوطنية والقومية الهامة. ولكن غياب القوى الاجتماعية والتنظيم الشعبي القادر على حماية التحولات التقدمية وضمان استمراريتها وتطورها فسح المجال أمام زعامة الاستسلام الجديد المشبوهة لضرب هذه المنجزات بتجذير الاتجاهات اليمينية وتكريس التعاون مع القوى الاستعمارية والرجعية العربية بعد تصفية أركان النظام الناصري سنة 1971، وفك التحالف مع الاتحاد السوفياتي سنة 1972. هذا في حين أفضت الأوضاع المتردية في سوريا إلى إنقلاب 1970 الذي لم يؤسس في الواقع لأي تغييرات تذكر، أما بالنسبة للأنظمة المحسوبة على الصف التقدمي فإنها لم تخرج عن الارتباط بالاتجاهات الأساسية العامة للمقاومة والتحرير.

في مثل هذه الأوضاع السائدة على الجبهات الثلاث المصرية السورية الأردنية لم تجد المقاومة بدا من الانتقال إلى لبنان الذي تحول إلى مركز استقطاب نضالي و ثوري و مجال نشاط الثورة العربية. و في الواقع لم تبلغ الحركة درجة القوة التي توقعتها أغلب التقديرات نظرا لغياب الدراسة الموضوعية لسير الأحداث والتخطيط الاستراتيجي المحكم.

ولئن استطاعت المقاومة بكل امتداداتها الحفاظ على وجودها واستمراريتها إلى حدود سنة 1982، فيعود إلى رغبة ومصلحة النظامين السوري والمصري وأغلب الأنظمة العربية الساعية للتسوية التي كانت تبدو بعيدة و لم تكن احتمالات الحرب قد سقطت بعد، لذلك كانت مصلحة الأنظمة تقتضي الحفاظ على استمرار المقاومة حسب متطلبات الموقف المطلوب والوقوف دون تطورها ومنع التحامها بالحركة الشعبية العربية.

لقد أفضت كل هذه المعطيات إلى حالة من الجمود والسكون على مختلف الجبهات أحرجت الأنظمة العربية المعنية بالتسوية وخاصة النظام المصري والسوري اللذين أوقفا القتال على مختلف الجبهات دون تحقيق تقدم ملموس حيث لم يجد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ما يدفعها إلى الإسراع بتطبيق مشروع روجرز. وهو ما دفع بهما إلى اعتماد المناورة و التظاهر بالإعداد للتحرير من خلال الإعلان عن اتحاد شكلي مع النظام الليبي كتمهيد للمعركة، وفي هذا الجو السائد وجد النظام الأردني الفرصة ملائمة للإعلان عن مشروعه المعروف بالمملكة العربية المتحدة سنة 1972 والذي يستهدف القضية الفلسطينية نهائيا.

ونظرا لخطورة مسار الأحداث بادرت القيادة العراقية للإعلان عن مبادرتها الحاسمة والقائمة على مشروع الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر بهدف تحقيق التحرير الشامل وفق إستراتيجية محددة وضمن برنامج سياسي واقتصادي وعسكري طويل الأمد. ومن خلال الإصرار والاستعداد الكامل من ناحية والتسويف والمماطلة من الجانب الثاني تبين أن التسوية لم تكن خيارا تكتيكيا بل نهجا ثابتا حيث اتضح مدى الاستعداد للاعتراف بالكيان الصهيوني ذاته.