حرب اكتوبر 1973 الجزء 5

ولكن السلبية الكبيرة التي انطوت عليها هذه الحرب ارتبطت بالنتائج التي أفرزتها الحرب ذاتها وبكيفية توظيفها السياسي من طرف أنظمة المواجهة والأنظمة الرجعية عموما. وقد أصبح من المؤكد أن النوايا والأغراض السياسية المبيتة رافقت كل أطوار الحرب سواء من خلال الالتفاف على كيفية استعمال سلاح النفط أو توقيت إيقاف إطلاق النار وبالتالي في تحديد وجهة الأحداث و كيفية استغلال النتائج الحاصلة.

ولم يعد خافيا اليوم من خلال تناقض التصريحات والادعاءات والخلافات التي طفت على السطح بين النظامين المصري والسوري الغموض الذي أحاط بمسألة الوفاق الدولي والذي بلغ حد التلفيق والتزوير. ففي هذا الإطار ادعى هذان النظامان لتبرير التخاذل إزاء القضية القومية وإعطاء مشروعية وهمية لموقفهما المشبوه والمتواطئ أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اللذان يجمعهما الوفاق الدولي أجبرا الطرفين المتصارعين على تحديد الصراع وإيقاف إطلاق النار وفرضا التسوية استنادا إلى القرار رقم (338).

وبذلك اتخذ الوفاق الدولي مبررا من النظامين المصري والسوري وحلفائهما ومن القيادات المستسلمة في المقاومة الفلسطينية وأغلب الأنظمة العربية للتخلي عن نهج الكفاح التحرري والقبول بمشاريع التسوية المشبوهة، ومن المؤسف أن المفارقة التاريخية الخطيرة التي قامت على الاستثمار المعاكس للنتائج الإيجابية التي جاءت بها الحرب لم تكتشف بشكل مبكر من أغلب الأطراف المعينة بالصراع والتي كان لها أكبر الأثر على واقع الأمة العربية ومستقبلها وعلى مسار الصراع العربي الصهيوني.

فقد كان من الواضح أن الوطن العربي يمر بمرحلة مخاض كبير ويقف على مفترق طرق حيث تشير كل الدلائل إلى حتمية التحولات في الوضع العربي كله وفي الصراع مع العدو، بذلك كان الخيار واضحا فإما أن تقود قوى الثورة هذه التحولات التاريخية وإما أن تقوم الردة بإجهاضها وتحريفها عن مسارها القومي الثوري واستغلالها لتعزيز مواقعها وتحديد مواقع الاستعمار.

وهذا ما تم فعلا إذ لم تكن قوى الثورة العربية على درجة من النضج والقوة تمكنها من التحكم بزمام المبادرة التاريخية.

وعليه، عملت أغلب الأنظمة العربية على استثمار نتائج الحرب لتكريس خط التسوية وتقديم المزيد من التنازلات على أساس أنها تنطلق من (مركز القوة) وهو المسار الذي سلكه النظام السوري بقبوله بقرار (338) الذي يستند إلى القرار (242) وانساقت إليه كذلك قيادة منظمة التحرير التي كانت تعارض الحل السلمي قبل الحرب وإن كانت بعض الأوساط القيادية متواطئة مع أنظمة التسوية. ومن أهم العوامل المضافة بعد الحرب إطلاق فكرة إقامة دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة التي اتخذتها قيادة المقاومة مبررا للقبول بنهج التسوية وهو الاتجاه الذي عززه مؤتمر القمة العربية في الرباط حيث اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. إذن، ألا نجد في جملة هذه المعطيات المحددات الرئيسية لمسار الأحداث المتتالية من أحداث لبنان 1975 واجتياح بيروت في 1982 وإخراج المقاومة وإبعادها عن حدود المواجهة وتأجيج نار الفتنة والصراع في الخليج العربي وما تخلل كل ذلك من تصفية للخط المتصلب في حركة المقاومة الفلسطينية وإخضاع البقية الباقية لإرادة الأنظمة وتهيئة الأجواء للتلاعب بالقضايا المصيرية للأمة والوطن.

ألم تجد الأنظمة المتواطئة والقيادات الانتهازية الفرصة ملائمة بعد "حرب الخليج" لتجسيد الخط الرجعي ونهج التسوية وتكريس خيار الاستسلام الذي تروج له وسائل الدعاية والإعلام بـ(سلام الشجعان) ولا يزال يحلوا لبعض الغربان الحديث عن السلام كخيار استراتيجي للتغطية على عجزهم وخياناتهم المفضوحة خاصة وأن أغلبهم عمل على إخراج ما كان يحاك في السر بين أوسلو ومدريد إلى حيز الواقع ولا زال يعمل جاهدا على تلافي شبح الهزيمة بعد أن أوقعتهم المقاومة الباسلة في شر ما يدبرون.

ولمزيد تعميق التحليل يمكن أن نؤكد أن حرب الخليج الثانية والتي أصبحت تعرف بأم المعارك لا تعدو أن تكون نتيجة طبيعية لجملة من المتغيرات ولمسار الأحداث. إن العراق الذي عمل منذ ثورة تموز على دعم خطة المقاومة والمساهمة الفعلية في ترسيخه على الميدان وعلى تكريس شعارات حركة التحرير الوطني والقومي ومبادئ الثورة العربية، لقد انفرد دون سواه بمهمة تمثيل الأمة وتجسيد قومية المعركة وإنسانيتها وعدالتها في مواجهة من اجتمع من الأعداء والخونة.

إن أهمية أم المعارك تكمن في كونها وضعت حدا فاصلا بين مرحلتين:

مرحلة التهاون والاستسلام لمنطق الهزيمة ومرحلة الصمود على طريق المواجهة الفعلية والحقيقية.

إن هذه المعركة كانت ردا على مخلفات الحركة الاستعمارية والتجزئة وما تخللها من مؤمرات ودسائس في المؤتمرات الصهيونية (كامبل بنرمان، سايكس بيكو، وعد بلفور، قرار التقسيم، مشاريع الاستسلام، محاولات التطبيع...) كما ساهمت في وضع العالم بأسره أمام حقيقته العارية وكشفت عن حقيقة الأطماع الاستعمارية وامتداداتها السرطانية في جسد الأمة العربية وعن عمق الفساد المستشري في الأنظمة القائمة والمستهترة بمصالح الجماهير الشعبية وأعادت لشعارات الوحدة والحرية والعدالة ألقها لتضع المعركة في إطارها الصحيح ولترتقي بها إلى أعلى مستوى من التضحية والنضال وهو المستوى الجهادي بكل أبعاده الحضارية والإنسانية وعلى أوسع مدى من العمق التاريخي.

إيمانا بهذا المبدأ استطاع العراق أن يواجه بكل ندية وأن يصمد بكل عزة وإباء وأن يعيد للمقاومة دورها وفعاليتها وللأمة ثقتها بنفسها وللشعارات القومية وللفكر القومي العربي الثوري الدور الأساسي في صياغة المواقف الثابتة وفي بلورة مشروع الوحدة النضالية والشعبية والنهضة القومية الشاملة التي لا مناص للعرب منها إذا ما أرادوا لأنفسهم مكانا تحت الشمس.