حرب اكتوبر 1973

في ذكرى حرب أكتوبر 1973

حتى لا ننسى: البعض من تداعيات التاريخ على ما نحن عليه

بقلم: الأستاذ حبيب اليزيدي - تونس

يبدو أنه كتب علينا نحن العرب دون بقية الشعوب أن نجتر نفس الأسئلة بمختلف الصيغ والأشكال والأساليب البلاغية دون الانتقال إلى مستوى آخر من تعميق الأسئلة التحليلية والتقييمية حيث يزداد اليوم السؤال إلحاحا بعد انخرام التوازن الدولي بسقوط جدار برلين وانحلال الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وانكفاء روسيا على ذاتها وانكبابها على معالجة أوضاعها الداخلية مما جعل القوى الحية المناضلة بدول الجنوب وفي الوطن العربي تقف منفردة في مواجهة الأعداء والتصدي للهيمنة في الوقت الذي يردد فيه أصحاب النفوس الضعيفة، في السر والعلن، ضرورة الاستسلام للانفراد السياسي الأمريكي والترويج لمشاريع الاستعمار والعولمة والإخطبوط الرأس المالي الصهيوني. وبما أن العرب هم الأكثر عرضة للهجمة الأمريكية الصهيونية فلنا أن نسأل في مقابل ذلك: هل ضعفت الأمة العربية إلى درجة أن يستهين بها الفاسقون من أبنائها ويستبيح أرضها وثرواتها ومقدساتها الطامعون من أعدائها؟ هل فقدت الأمة العقل والفكر والقدرة على التحرك والرفض والتصدي؟

إن الإجابة على هذا التساؤل يستوجب نظرة تقييميه للمرحلة الممتدة من أواخر الأربعينات إلى اليوم ذلك عبر جملة من الأسئلة الاستفهامية نوردها كالتالي:

هل استسلمت القوى الوطنية والقومية المناضلة لمشاريع الاستعمار والصهيونية والخيانة منذ فقد العرب مقاليد أمورهم؟

هل خبا وهج وبريق الفكر القومي النضالي وفقد دوره في شد أواصر الأخوة والتضامن العربي وتحريك الضمير القومي؟

هل ماتت جذوة و حماسة النضال والنخوة العصبية من أجل حماية الشرف والكرامة العربية؟

إذا كان الأمر كذلك، ففي أيّ إطار ننزل صمود شعبنا العربي في العراق واستبسال المقاومة اللبنانية وهبة الشعب العربي في فلسطين في الدفاع عن حقه في الحرية واسترجاع حقوقه التاريخية والجغرافية؟

إنّ الأسئلة تدحض بعضها البعض والشك في العجز العربي مدحوض من أساسه ولا يوجد له صدى إلا في عقول المناوئين لوجود الأمة وحقوقها في التحرر والتوحد والحياة الكريمة العادلة.

والواقع أنه في كل مرّة، يتردد فيها السؤال تكون الإجابة واضحة، واليوم كما بالأمس نقول أنّ فرصة للعمل التاريخي القائم على الفكر قد أتيحت للشعب العربي من جديد، وأن الأمة العربية مهيأة للعمل التاريخي. وطالما أن أهداف الحركة القومية في الوحدة والحرية والعدالة والتي حددها الفكر القومي لم تتحقق فسيبقى لهذا الفكر دوره على أساس ما تثبت جدواه من الماضي وما يعزز الصمود والتحدي من معانات الحاضر وما يرجى من طموحات وأفاق المستقبل. وسيبقى للحركة القومية شأنها وستكون أقل من يصيبه الهرم وينال منه الزمن، وطالما أن الأمة العربية تحمل رسالة فإن الرسالة لا تنتهي وحيث ما وجد نضال فستظل الأمة حيّة وفكرها وقاد.

إننا نذهب هذا المذهب رغم مسحة التشاؤم واليأس السائدة لأننا نؤمن بكل بساطة بأن الفكر القومي لا يبنى إلا على التفاؤل لأنه فكر يصوغه النضال والفعل الإرادي المبدع ولأن النضال طريق العرب للحياة، فإن قمة التضحية في سبيل الدفاع عن الأمة وعن حقها في النهضة يعكس قمة الإيمان بالمستقبل مما يجعل الفكر القومي أداتنا لمجابهة معضلات واقعنا الراهن ووسيلتنا للتحكم بناصية المستقبل.

ولكن، إذا كان ولا بد من العودة إلى تقييم الواقع الذي أصبح مدعاة للتشاؤم في أغلب الكتابات والتحاليل وحتى في كثير من المواقف فيجب أن ننطلق من السؤال التالي: هل أن وضع الأمة اليوم أسوء مما كان عليه أيام الحرب الباردة وأيام الوفاق في ظل التوازن الدولي إلى بداية التسعينات؟

لا يمكن أن ننكر ما ظهر من إيجابيات بداية من مرحلة الأربعينيات مع تصاعد وتيرة حركة التحرر العربي والتي شهدت تبلور الفكر القومي التقدمي وصعود المد الثوري الجماهيري الذي توجته وحدة 1958، وانتصار الثورة الجزائرية في بداية الستينات وتحطيم حاجز العجز النفسي بالانتصار العسكري وتفوق العقل العربي في التخطيط والأداء في حرب 1973، وفي المقاومة الباسلة في لبنان وفلسطين والتصدي الباهر للإرادة العربية في الجناح الشرقي للأمة، ولكن في المقابل لا يمكن أن ننفي الإحساس العميق بالمرارة الذي تغلغل في أعماق الجماهير العربية مع نكبة 1948 وهزيمة 1967 وخيانة "كامب ديفد" ومحاصرة الثورة الفلسطينية والتلاعب بالقضايا المصيرية للأمة والتآمر على حركة الثورة العربية وتشتيت قوى النضال الوطني والقومي وما رافق ذلك من خيبة أمل عارمة ناجمة عن الفشل الذريع الذي منيت به أغلب المشاريع الوطنية والقومية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية حيث تعثرت مشاريع النهضة والتنمية الشاملة وبددت الثروات العربية دون تحقيق المستوى الأدنى من النمو.

ألا تعتبر المرحلة الراهنة للأمة إذن نتيجة حتمية وتطورا طبيعيا للبنى السياسية والمؤسسات والنظم والتركيبة المجتمعية كاملة ولمسيرة النضال التي كانت سائدة في عصر التوازن الدولي وأفضت إلى ما نحن فيه من هيمنة سياسة ا لقطب الواحد الذي يحلو للكثيرين نعته بزمن العولمة، بل يمكن أن نذهب اليوم بالسؤال إلى أعمق من ذلك لنقر بأن وجود الإتحاد السوفياتي كقوة موازنة لعب دوره الكامل في تهميش الكثير من الحقائق التاريخية وحتى في التلاعب بالقضايا العربية باعتبارها مثلت حلبة الصراع والمساومات في عملية الشد والجذب المتبادل رغم ما كانت توهمنا به مقولات الحياد الإيجابي ومجموعة عدم الانحياز والجامعة العربية... والتي تم توظيفها للتمويه على تطلعات الشعب العربي وظهرت مع الأيام حقيقة مهامها التاريخية التي كانت ترمي إلى تكريس العجز والفشل في صلب التوجه والتحرك العربيين.

على ضوء ذلك ومن منطلق التجاوز البناء تبدو النظرة التقييمية النقدية لكل المرحلة السابقة أكثر من ملحة، وإسهاما في إثراء الحوار وتعميق النقاش نرى من الضروري الوقوف على ثلاث محطات كبرى تعتبر بمثابة العلامات الفارقة لمسيرة النظام الوطني والقومي وكان لها أكبر الأثر على حركة الثورة العربية وهي على التوالي: هزيمة 1967، حرب أكتوبر 1973، وحرب الخليج الثانية.

لم يعد بمقدور أحد أن ينكر قصور النظرة الثورية التي أفضت إلى هزيمة 1967 بعد أن نالت حظها من التقييم والنقد والتي يكمن عجزها عن أداء مهامها في اعتمادها على النزعة القطرية وعلى التسلط والبيروقراطية وعلى تعطيل دور الجماهير الشعبية وإقصائها وتشويه دور المنظمات وتهميش أداء النقابات والتآمر على الديمقراطية والوحدة. لذلك كانت هزيمة 1967 إدانة واضحة وعلنية لكل النظم والمؤسسات السياسية ولما تنطوي عليه من رواسب سلبية وأداء هزيل رغم رفعها لشعار قومية المعركة وإدعائها التقدمية والثورية. كما أفضت في نفس السياق إلى كشف حقيقة الأحزاب السياسية وعجزها عن تحقيق أهداف المرحلة والصمود إزاء الانحرافات المبدئية حيث حكم عليها انغلاقها على ذاتها وما سيطر عليها من نزوات الغرور والتفوق وانسياقها إلى الانفعال وردود الأفعال والتي كانت من الأسباب المباشرة لزرع بذور الفتنة والانقسام والتناحر داخل قوى الثورة العربية بما أدى بها إلى الابتعاد عن التخطيط العلمي والنظرة الموضوعية وبالتالي الخروج المبكر عن دائرة الفعل والصمود لمواجهة أعداء الأمة وأحالها إلى مجرد تكتلات سياسية تشقها الدسائس والمؤامرات وألاعيب الأعداء بكل أصنافها وقد كانت النتيجة نكبة 67 بكل أبعادها العسكرية والسياسية ولكنها لم تكن انكسارا نفسيا إلا لدى المحبطين أصلا والواهمين بأن العواطف هي أساس الفعل النضالي وأداة توحيد للجهود والقوى الشعبية.

على هذا الأساس اعتبرت النكبة في تاريخ حصولها حدا فاصلا بين مرحلتين:

مرحلة الاضطراب الفكري والتنازع السياسي والتآمر الرجعي الذي خرب الوحدة بين مصر وسوريا وغرس البذرة الأولى التي مهدت لهزيمة 67. ثم مرحلة التحدي والرد الحاسم على أنظمة الهزيمة ببناء الأدوات التنظيمية والقواعد الوطنية الحزبية والمنظمات الشعبية الكفيلة بإزاحة القواعد الاستعمارية وتحجيم دور الرجعية ومن ثمة إعادة بناء إستراتيجية النضال القومي عن طريق تعبئة القوى الثورية المناضلة لمواجهة التحدي الامبريالي الصهيوني الرجعي. من هذا المنطلق عملت القوى الوطنية والقومية الثورية على تطوير أدائها والتي وجدت في تصاعد الحركة الجماهيرية المتحررة من قبضة الأنظمة الفاسدة التي نالها الضعف والوهن فاستسلمت لإرادة التغيير في العراق والسودان وليبيا وبعض الأقطار الأخرى بشيء من التفاوت في الالتزام بالتوجهات القومية.

حتى لا ننسى: البعض من تداعيات التاريخ على ما نحن عليه