لأن التاريخ علم وتاريخ المقاومة الجزائرية للاحتلال وتضحيات الشعب الجزائري بالدم أولا تجاوزت الخيال وأدهشت ضباط فرنسا منذ 14 جوان 1830، فإن ممثل الجزائر بالقاهرة عبد القادر حجار لم يكن في مستوى الشعب الجزائري عندما انساق وراء الترهات والخطابات الإعلامية المصرية وصرح في حصة لقناة نيل تيفي ''الجمال موباركية'' أن مصر ساعدتنا في حرب التحرير، وزعم أن بيان أول نوفمبر صدر في القاهرة، وهي تصريحات بعيدة كل البعد عن الواقع التاريخي الذي يجهله سفيرنا ربما لأن تاريخ ثورتنا وتاريخ المقاومة الجزائرية لم يكتب حتى اليوم.
كما ارتكب حجار خطأ ثانيا في نفس الحصة عندما أعلن أن الجزائريين ساعدوا مصر سنة 1967 وسنة 1973 لأن الجيش الجزائري شارك في الحربين رغم حداثة استقلال البلاد وعدم اندمال الجروح ليس مساعدة لمصر بل من أجل تحرير فلسطين، وهي ذات القناعة التي جعلت الجزائريين سنة ,1948 أي قبل استقلالهم يتطوعون ويموتون دفاعا عن فلسطين وقطعوا المسافة بين الجزائر ومصر مشيا على الأقدام.
ويعلم كل العرب أن الجزائريين سال دمهم في مصر ولم يصلوا إلى مبتغاهم بسبب التكتيك المصري، لأن المصريين اكتفوا كما يقولون بالتغلب على الخوف. ليعود الجزائريون إلى بلدهم بشعور قوي بالطعن في الظهر والخديعة.
تطاول وتغليط
وكانت هبّة الجزائريين في 1948 و1967 و1973 أكبر بكثير من هبة المناصرين اليوم لمساندة الفريق الوطني، وأمام التطاول والتغليط الذي تبثه القنوات المصرية وحتى بعض الجزائريين والعرب الجاهلين بتاريخ الجزائر وشعبها نذكر فقط أن الجزائر كانت قلعة جهاد وحصن حماية للمسلمين والعرب بعد سقوط الأندلس، فهي التي كسرت الغزوات الصليبية أو حروب الريكوكيستا.. وكان الباشا محمد علي مؤسس دولة مصر الحديثة وملكها سندا قويا للملك الفرنسي شارل العاشر ورئيس حكومته البرنس دي بولينياك. مؤسس دولة مصر الحديثة أهدى محمد علي باشا سنة 1830 إلى سيده ملك فرنسا مسلة الأقصر ''أوبيليسك'' التي تقف اليوم وسط ساحة لاكونكورد بباريس، وذهب أبعد من ذلك إذ اقترح لمونتنياك أن يحتل له الجزائر شريطة أن توفر فرنسا فقط الضباط والمصاريف، وعندما اجتمع البرلمان الفرنسي في جانفي 1830 واتفق مع جميع الوزراء على الاستعداد لغزو الجزائر استقبل وفد مبعوثي الباشا ''الخبيث'' محمد علي ليشرح للبرلمانيين ما اتفق على تسميته ''مشروع محمد علي''، واقترح الملك المصري لفرنسا أن يحتل لها الجزائر بتجنيد 68 ألف ''رجل'' مصري لاحتلال الجزائر وتسليمها للفرنسيين مقابل أن تساعده فرنسا ليصبح حاكما على طرابلس وتونس وتوفر له 23 سفينة و100 مليون فرنك لتغطية مصاريف الحملة.
والحمد لله الذى لم يرض أن يسيل الدم بين مسلمين، فإن الفرنسيين رفضوا اقتراح محمد علي واعتمدوا على أنفسهم في احتلال الجزائر ودفعوا بدمهم ثمن كل شبر احتلوه أمام مقاومة شعب قال عنه فرحات عباس أنه كان ينهزم بشرف ويجبر عدوه المتفوق عددا وعدة إلى اللجوء إلى طرق لا أخلاقية، واعتبر البرلمان الفرنسي وقتها خطة عمالة محمد علي عند مناقشتها إهانة للشرف الفرنسي.
تبريرات محمد علي الذي حاول الإقناع أنه يستطيع احتلال الجزائر لأنه مسلم ويعرف جيشه لغة الجزائريين لا يعرفها الشعب المصري والجزائري والعرب لتصب قنوات أم الدنيا وغيرها سمومها على العرب والجزائريين مقدمة الشعب الجزائري الذي أبهر بشجاعته وإقدامه العالم أنه شعب ناكر للجميل وحرره المصريون وساعدوه، وكأن المصريين ومخابراتهم التي أصبحت اليوم ترشق حافلة الخضر بالحجارة في القاهرة بأمر من لوبي السي جمال مبارك وترعب تشكيلة شابة وحفنة من المشجعين، هم الذين ماتوا وسال دمهم لتتحرر الجزائر وشخصيا لا أعرف مصريا مات خلال الثورة الجزائرية، في حين أن فرنسيين أحرارا أمثال موريس أودان، هنري مايو، موريس لابون، ريموند بيشار وفرنان ايفتون وآخرين استشهدوا من أجل تحرير الجزائر ولم يساومنا أحد في مساعدته للجزائر في حربها من أجل الاستقلال إلا مصر التي تعتبر تعليق مذيعها الذي لا يعرف جغرافيا الجزائر وظنها جمع جزر أرخبيل، ليصرح بكل بلاهة أن الثوار الجزائريين يطاردون الجيش الفرنسي في الجزائر وهو فار من جزيرة إلى جزيرة. هذا الكلام وغيره من الشعارات أصبح المصريون بفضله يعتقدون أنهم حرروا الجزائر التي واجه شعبها أعزل تقريبا أعظم أرمادة استعمارية ودفع ثمن الدم بحجم لم يدفعه شعبا في العالم.
خرافة مصرية
عمليا لم تكن العلاقة بين قادة الثورة الجزائرية ونظام عبد الناصر جيدة بالطريقة التي سوقتها وسائل الإعلام والبروباغندا، ولم تكن مصر مثل بعض الدول الأخرى مقتنعة بإمكانية استقلال الجزائر التام ولا حتى استقلال يشكل حكما ذاتيا. وكان نظام عبد الناصر يستعمل القضية الجزائرية لفرض إديولوجية الوحدة العربية بمنظور الحزب الواحد المنبثق عن انقلاب 23 جويلية 1952 والمسمى بثورة يوليو الذي أقصى الأحزاب المصرية التقليدية مثل الوفد وساند بن بلة ضد عبان الذي ضم ممثلي الأحزاب مثل فرحات عباس لتصبح جبهة التحرير على شاكلة النظام المصري لا ديمقراطية تحلم وتنطق باسم المشروع الإديولوجي العروبي المصراوي، وهو ما جعل العلاقة بين جبهة التحرير ومصر دوما متوترة وانتهت بانسحاب الحكومة المؤقتة من القاهرة إلى تونس. وحاول عبد الناصر استثمار الثورة الجزائرية ضد بورڤيبة والمغاربة وضد نظام العراق بعد 1958 والذي ساعد فعلا الثورة الجزائرية ماليا وعسكريا.
وكانت حرب التحرير عرفت خلافات كبيرة بين قادة الثورة الجزائرية والنظام المصري الذي لم يف بالأقساط المالية التي كان يعلن أنه قدمها للثورة الجزائرية، إضافة إلى الأموال التي كانت تمنح للثورة الجزائرية وكان النظام المصري يستحوذ عليها اعتمادا على وثائق تاريخية من الأرشيف، يقول المؤرخ جيلبير منيي، في كتابه ''التاريخ الداخلي لجبهة التحرير'' الصادر عن دار القصبة سنة2003 ، أن الخلاف بين جبهة التحرير الوطني والنظام المصري سببه تأخر مصر عن تسديد مستحقات الثورة الجزائرية التي جمعت خلال أيام وأسابيع التضامن مع الثورة الجزائرية. ففي سنة 1957 تم تحويل جزء كبير من أموال التضامن إلى الخزينة المصرية لتحول أم الدنيا الأموال إلى بصل عدس وأرز، وهذه الطريقة كانت تسمح لمصر بتدعيم احتياطي العملة الصعبة. وهذه الأموال قدّرها الخبراء بحوالي 2 مليار فرنك، وهي ذات القيمة التي أعلنتها مصر في الأخير سنة ,1959 أنها خصصتها في ميزانيتها لمساعدة الجزائر هذا ردا على الحكومة العراقية التي اتهمت مصر بسرقة وحرمان الجزائريين من أموالهم، سيما وأن بغداد ساعدت فعلا ماليا ودون تحفظ وقدمت لوحدها أكثر من 40 في المائة من الأموال والعتاد للثورة الجزائرية، بالإضافة إلى الكليات العربية، وجمعت جيشا من المتطوعين للحرب في الجزائر رفضت مصر أن تسمح له بالمرور على أراضيها.
وعندما أعلنت مصر لأول مرة سنة 1959 أنها خصصت ميزانية للجزائر بعد أن غادرت الحكومة المؤقتة إلى تونس، فإن النظام المصري تراجع عن بعض الامتيازات التي سمح بها للجزائريين كالرخص الممنوحة مجانا للسيارات الجزائرية سحب لوحات الترقيم الخاصة بالجزائريين، سحب تدعيم الطلبة المتربصين الجزائريين ثلاثة جنيهات. كما كانت مداخيل الثورة الجزائرية من العملة الصعبة تحول دون إذن إلى جنيهات مصرية أو سلع أو أسلحة من النوع الرديء. وتم تجميد المساعدات المالية ابتداء من مغادرة الحكومة المؤقتة للقاهرة.
وكانت مصر أوقفت الحصص المناهضة لفرنسا الاستعمارية التي تبثها إذاعة القاهرة لعدم إحراج فرنسا خلال المفاوضات بين الرئيس عبد الناصر ووزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو في مارس سنة 1956.
واكتشف الجزائريون سنة 1959 أن أولى دفعات السلاح الموجهة للثورة الجزائرية والمتكونة من حوالي 1000 قطعة صادرتها واستولت عليها المخابرات المصرية.
وازداد التسلط المصري والتوتر سنة 1958 مع محاولة النظام المصري قلب الحكومة المؤقتة في ما يسمي محاولة العموري. ووصلت الأمور إلى حد جعلت عبد الحفيظ بوصوف خلال تحويل مقر الحكومة إلى تونس يعطي أمرا بحرق كل وثائق تفكيك الشفرة وكل وثائق الاتصالات حتى لا تستحوذ عليها المخابرات المصرية.
واعتمد النظام المصري على جزائريين طيّعين أمثال بن بلة وتوفيق المدني وناور وتصدى للقادة الذين دافعوا عن سيادة القرار الجزائري، ولم يرضخوا لإيديولوجية ''ثوار يوليو'' العروبية.. أمام عدم ليونة قادة الثورة سنة 1959 ضاعف النظام المصري من مضايقاته لقادة الثورة الجزائرية بتوقيف مهرجانات التضامن وتضخيم وفرض الضرائب الجمركية على عتاد الراديو الموجه لجيش التحرير. وقام النظام المصري بمنع الحركة على الجزائريين حتى الذين كانوا يحملون وثائق صحيحة سلمت لهم من طرف السلطات المصرية.
المسكوت عنه!
''على امتداد عدة أسابيع كان الجزائريون يطردون ويمنعون من الدخول إلى مصر على الحدود الليبية الجزائرية وحتى السيارات الرسمية كانت ترد، وتم توقيف فريق جبهة التحرير الوطني ومنعه من الدخول على الحدود الليبية المصرية.. في نفس الوقت أفشلت دورات الرئيس عباس وأحمد فرنسيس ومزهودي في لبنان وسوريا ومصر، بحكم أن مصر هيمنت على سوريا التي كانت مرتبطة معها من خلال مشروع الوحدة، ولم يتقدم أي رسمي لاستقبال الحكومة المؤقتة بالمطار عندما حضرت للتفاوض من أجل إخلاء سبيل الأسلحة الجزائرية المحتجزة بميناء انطاكيا.
وخوفا من المراقبة والمنع اضطرت الحكومة المؤقتة إلى نقل أدوات التحرير والطبع إلى تونس. وكانت مصر تحاول استغلال وتوجيه الحكومة المؤقتة ضد العراق التي كانت تنافسها في قيادة الرأي العام العربي القومي.
ففي ندوة بغداد المنعقدة في فيفري ,1960 طالب كريم بلقاسم برفع المساعدات المالية للثورة الجزائرية ومقاطعة الدول العربية لفرنسا سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وقال كريم بلقاسم وقتها في إشارة إلى مصر ''إن العرب عدا العراق يمنحون الكثير من الكلمات الطيبة والتعاطف بدل المساعدة الفعلية''.
وردا على مصر التي كانت تنتظر أن تفاوض فرنسا بدل القيادة الجزائرية، أو كانت تنتظر أن تستشار، حذر كريم بلقاسم في ندوة بغداد قائلا إن الجزائر سيدة في قرارها واختيار مصيرها وتتحفظ لنفسها بحق التفاوض مع فرنسا على حل كما تشتهيه الجزائر، دون استشارة العرب.
وفي الندوة الثانية المنعقدة بسطورة بلبنان شارك فيها وزراء الخارجية للدول العربية عدا تونس التي انسحبت من الجامعة العربية وطالب فيه كريم بلقاسم الدول العربية بتسديد مستحقاتها المتأخرة، وهو يقصد بالخصوص مصر.
وحرمت مصر ومخابراتها الثورة الجزائرية من تكوين طيارين، وهو ما قامت به بغداد والصين وسوريا. كما أن أكثر من 5000 بندقية أمريكية من نوع أم 17 بقيت رهينة لم تدخل إلى الجزائر التي دفعت ثمن الأسلحة نقدا بفضل أموال جاليتنا. وكان مسؤولون من وزارة التسليح حاولوا استردادها من مصر بعد الاستقلال ولم تتم العملية حتى اليوم، لأن مصر تراجعت عن تسليمنا أسلحتنا (5000 بندقية) لأنه أطيح بالرئيس بن بلة في 19 جوان.
وكان دور مصر وبن بلة هامشيا جدا في واقع حرب التحرير الوطني من1954 و,1965 لكن الإعلام الفرنسي ضخم أسطورة بن بلة ومصر والاتحاد السوفياتي للبرهنة أن الثورة لا يقوم بها جزائريون بل مفبركة في القاهرة.
وعندما عاد الشهيد العربي بن مهيدي من القاهرة واجتمع بعبان قال له إنه لا يمكن الاعتماد على جماعة القاهرة لنعتمد على أنفسنا. وهكذا وضعت الثورة على سكة الكرامة والحرية بفضل مؤتمر الصومام الذي ترأسه الشهيد العربي بن مهيدي، والذي أقرت أرضيته أن الثورة الجزائرية ليست موالية لا للقاهرة ولا لموسكو..
رجاء العبوا كرة ولا تتحدثوا عن مساعدة الجزائر أثناء الثورة، لأن الاستقلال ثمنه دم، ويا ليت مصر اليوم تحول مستحقات الثورة الجزائرية وأسلحتها إلى المناضلين من أجل تحرير فلسطين، لأنها أموالنا وأسلحتنا، لكن الجزائر بخير اليوم وليست في حاجة.. يحمل شبابها ونساؤها علم المليون ونصف شهيد ويحلمون بكأس العالم لفريقهم الشاب. ¯
أوبترون منتصر