. الكنز الغائب:
فالبرامج المؤهلة لصنع القيادات قد عجت بها الكتب، لكن تبرز المشكلة في الجيل الذي افتقد الفاعلية المطلوبة والإيجابية المرادة للاستفادة من هذه البرامج، وتحويلها إلى أشياء واقعية حية في الواقع فاثاقل الناس إلى أرض الخنوع والسلبية وأدمنوا إلقاء التبعية والمسؤلية على غيرهم، فقد يكون الإنسان ذكيا أو صاحب شهادات علمية رفيعة ولكنه لا يتمتع بالفاعلية؛ لأن الثقافة المحيطة به والتي أشربها لا تساعده على إنجاز كبير، إن لم يتخلص من آثارها السلبية.
وهنا يطالعنا قول المستورد القرشي عند عمروبن العاص رضي الله عنه بكلام عظيم من حديث سيد المرسلين فيقول المستورد القرشي: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) فقال له عمرو: (أبصر ما تقول)، قال: (أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: (لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا، إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة وجميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك) [رواه مسلم].
فالقضية ليست في عدد وإنما عمل وإصرار، ولعل الأهم في الحديث السابق قول عمرو عن مصدر قوة الروم الأكثر أهمية وهو: (وأسرعهم إفاقة)، فلا يعني تنحي الأمة عن القيادة وتخاذل بعض أبنائها عن نصرتها أن تنكفئ الأمة على ذاتها وترفض الرغبة في التغيير بل العكس تمامًا ينبغي التحرك والعمل والفاعلية والإيجابية؛ حتى يتسنى جمع هذه الجهود وصياغتها بما فيها النفع الوفير للإسلام والمسلمين.
ونعني بهذا الكنز الغائب أو الفاعلية تحديد الوجهة والهدف، فقد يقود الإنسان سيارته بكفاءة عالية ولكن إذا كان لا يملك خارطة للطريق واتجه الوجهة الخطأ، فإن عمله لا يتسم بالفاعلية، ولو أن طائرة متجهة من لندن إلى موسكو انحرفت عن مسارها درجة واحدة لوجدت نفسها أخيرًا في مطار القاهرة.
3. من يرفع للخير راية:
إن هذه هي نتيجة تنحي الثقات طواعية عن قيادة الأمة فنطق الرويبضة ووسد الأمر لغير أهله فصنعوا وحركوا وقادوا الناس نحو أهداف واهية وغايات وضيعة، فانصرف الناس عن المشاركة في استعادة مجد الإسلام إلى تحقيق أهداف فرضت عليهم فرضًا، فعن أبي الدرداء قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء)، ثم قال: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: (كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا)، فقال: (ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم) [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
فما أحوجنا لرموز حية نستبدل بها الرموز الواهية التي تصدرت للأمة من غير أن تكون أهل لتلك المهمة وتقود الأمة إلى ما فيه خيرى الدنيا والآخرة.
منهج صناعة القائد:
إن قضية صناعة القادة ليست بالعملية السهلة، خصوصًا وأنت تتكلم على مستوى أمة من الأمم فهي وظيفة تتشارك فيها الأسر والمؤسسات التعليمية وأساتذة الجامعات والتربويين والمشايخ وطلبة العلم، أوبمعنى آخر إن عملية صناعة القادة إذا أردنا أن تكون على مستوى أمة؛ فينبغي أن يصنع المناخ الملائم لذلك، وسنحاول أن نضع علامات في الطريق وإلا فالموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة وبحث مستفيض.
ويمكن أن نعرض لبعض مبادئ صناعة القائد، ومنها:
1. مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإن من أهم المشاكل التي تواجه عملية صناعة القادة أن كثيرًا من الآباء يهملون مرحلة الطفولة، بل كثير من الشخصيات قد فسدت نتيجة التربية الخاطئة، ولذك يقول مونتجومري: (إن طفل اليوم هو رجل المستقبل، يجب أن يكون الغرض من صناعته بناء سجيته؛ ليتسنى له عندما يحين الوقت المناسب أن يؤثر في الآخرين إلى ما فيه خير، إن تجربتي الشخصية تحملني على الاعتقاد بأن الأسس لبناء السجية يجب أن تغرس في الطفل عندما يصبح في السادسة من عمره).
وانظر إلى أم الإمام مالك وطريقتها العظيمة في بناء هذه القيادة العلمية الفريدة، فيصف الإمام مالك طريقة أمه في تنشئته فيقول: (كانت أمي تعممني، وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه).
وإن كانت مرحلة الطفولة هي مرحلة الاكتشاف؛ فإن مرحلة الشباب هي بداية مرحلة الممارسة ولابد من برامج تربوية وعملية لإخراج الطاقات القيادية المكبوتة في الشباب، واستغلالها في صالح المجتمع والأمة، فتلك كانت أمنية ورقة بن نوفل حين علم بأمر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فتمنى أن يكون شابًا فتيًّا، فيبني صرح هذه الأمة مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه فقال: (يا ليتني فيه جذعًا) أي شابًا، ولماذا كان يريد أن يكون شابًا؟ يجيبنا ورقة نفسه في موضع آخر فيقول: (وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا).
وكان أبوسعيد الخدري يقول إذا رأى الشباب: (مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصانا رسول الله أن نوسع لكم في المجالس، وأن نفقهكم فأنتم خلوفنا وأهل الحديث بعدنا).
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، فهو الذي عقد لواء الجهاد ضد الروم بالشام في آخر حياته لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره، وهو أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
2. الجينات وحدها لا تكفي:
فإن الصفات الجينية المكتشفة في الأشخاص ذوي الأهلية للقيادة لابد من صقلها بالتدريب والتعليم للمهارات المختلفة، خصوصًا مهارات التعامل مع النفس، ومهارات استخدام العقل لتحقيق الأهداف، والتدريب يؤدي إلى تطوير المهارات والأساليب، بينما التعليم يؤدي إلى المعلومات والمعرفة واللذان يسهمان في بناء الفهم المطلوب لمواجهة تحديات الحياة.
3. الواقع خير معلم:
يحتاج القادة بعد التدريب والتعليم إلى النزول إلى أرض الميدان، والتعامل مع تحديات الحياة المختلفة؛ بحيث يكتسب الخبرة المطلوبة ويحصل على التدريب العملي المراد، والشباب عندما تعطيهم المسؤوليات تطرد عن عقولهم وهم العقول المستريحة والشعور بالدونية.
لكن على القائمين على برامج صناعة القادة أن يدركوا أنهم لابد أن يعطوا هؤلاء الشباب الفرصة للتجربة مع احتمالات خطأ معتبرة، يقول جون كوتر: (كان لدى القادة الذين قابلتهم حرية التجربة في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم؛ ليخاطروا وليتعلموا من نتائج الفشل والنجاح).
وينبغي أن لا تمنعنا بعض المحاولات الفاشلة عن إعطاء الفرصة للقادة الصغار؛ حتى تصقل خبراتهم وتشتد أعوادهم فهم قادة المستقبل الحقيقين، وختامًا، تذكر دائمًا ـ عزيزي القارئ ـ ما قاله الشاعر:
ألم تر أن العقل زين لأهله ولكن تمام العقل طول التجارب
أهم المراجع:
1. صناعة القائد، طارق السويدان وفيصل عمرو باشراحيل.
2. إدارة الأولويات، ستيفن كوفي.
3. الفاعلية وعوامل تنميتها، د. محمد العبدة.
4. بين العقيدة والقيادة، محمود خطاب.
5. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض.
6. السيرة النبوية، ابن كثير.