ربما يتفاجئ البعض ويتساءل قائلًا: وهل يمكن صناعة القائد؟ أو ليست القيادة صفة يمتلكها البعض ويُحرم منها الآخرون، وبالتالي من حباه الله نعمة القيادة كان قائدًا، وإلا فلا يتعب نفسه ويشق عليها فيأمرها بما لا تُطيق، ويُروضها على ما لا تستطيع.
وهنا ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يقول أننا نولد بها، ولعل هذا الفريق يستند على قول وارين بينيس حين يقر هذه القاعدة فيقول: (لا تستطيع تُعلم القيادة؛ القيادة شخصية وحكمة وهما شيئان لا يمكنك تعلمهما).
ولكن في المقابل يأتي الفريق الآخر والذي يرى أن القيادة كغيرها من مهارات الحياة كالمشي، وقيادة السيارة، والكتابة وغيرها يمكن تَعَلُمُها، بل يرى بيتر دراكر عالم الإدارة الشهير أن: (القيادة يجب أن تتعلمها وباستطاعتك أن تتعلمها)، ويذهب وارن بالك إلى أبعد من ذلك حين يقرر بوضوح أنه: (لم يولد أيُّ إنسان كقائد: القيادة ليست مبرمجة في الجينات الوراثية، ولا يوجد إنسان مركب داخليًّا كقائد).
القول الفاصل:
ومما يقطع هذا الخلاف، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه) [رواه الدارقطني في العلل، وحسنه الألباني]، ففي ذلك دلالة على أن صفات القادة من عفة النفس وعزتها، ومن قوة تحمل النفس وصبرها على الشدائد، يمكن للمرء أن يكتسبها، والطريق إلى ذلك أيضًا يصفه النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث ألا وهو طريق التدريب والتعلم.
ولا أدل على ذلك من قدرة هذه الرسالة المحمدية، وبراعة هذا القائد الفذ صلى الله عليه وسلم في إنشاء مدرسة لتخريج القادة، فتحول صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من أفراد عاديين يعيش كل منهم في إطار ذاته، ساعيًا وراء نجاح شخصه أو قبيلته، فإذا بهم قادة جيوش، وأمراء دول وأمصار، وعلماء وشعراء وأدباء، فأسسوا قواعد الحضارة الإسلامية وأرسوا دعائمها.
إذًا فالقيادة صناعة كأي نوع من أنواع الصناعات في حياتنا، فهي تتكون من مواد خام تدخل في آلات التصنيع، ثم تتم عملية الإنتاج، فيخرج لنا منتجًا بمواصفات تتناسب مع جودة المادة الخام، وقوة الآلات وسلامتها، تمامًا كما يقول الشاعر:
وخير الصناعات صنع الرجال فهم أس نهضتنا والعماد
على الدين والعلم تبنى النفوس وبالجد صرح المعالي يشاد
القيود الثلاث:
ولكن صناعة القيادات في مجتمعاتنا الإسلامية تقابلها تحديات عميقة، تحتاج منا إلى أن نتعلم كيف نجتازها، ومن تلك التحديات ما يلي:
1. حطم القفص:
فكثير من المسلمين يعيشون دون شعور بدورهم في إعادة المجد الضائع، وإنما تلخصت أهدافهم وتمحورت حياتهم حول أهدافهم الشخصية؛ فأصبح المسلم الذي قلده النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة يوم أن أكمل الله الدين وأتم النعمة، يعيش أسير نفسه ومتطلباتها، أصبح يعيش في جدران الحياة الدنيا ولذاتها.
ولكن من رحمة الله تبارك وتعالى بهذه الأمة الإسلامية أنه مهما مرت عليها من أوقات المحن والإنزواء إلا أنها لا تموت أبدًا إذا كان أفرادها لا يزالون يحلمون بالمجد الضائع والمسلوب، ولا شك أن الأمة الإسلامية قد صنعت حضارة شهد لها العدو قبل الصديق، والقريب قبل البعيد، وما قامت الحضارة الغربية إلا على الإرث الإسلامي.
ولقد شاء الله أن يتبدل حال الأمة إلى غير الحال التي طالما عاشته، وتحول المسلمين من قادة العالم إلى أتباعه، ولقد عمل أعداء هذه الأمة على النخر في عظامها حتى تتناسى مجدها الضائع، وترضى بذلها إلا أنها كما قلنا حضارة لا تموت وطالما أن شغاف قلوب أبنائها المخلصين تمتلئ بالحلم والأمل والثقة باسترداد المسلوب والسير على خطى الجيل الأول؛ فإن اليقظة أمرها ليس بالمستحيل، ولكن الأمر يحتاج إلى أن يتبنى هذه الفكرة القطاع العريض من أبناء الإسلام؛ فيهبوا لنفض غبار السلبية والتبعية ويستمدوا من التاريخ طاقة التغيير نحوالمستقبل.
2