ابتكار أساطير جديدة
ومن أساليب حرب الصهيونية ضد التاريخ وحقائقه أيضاَ، ابتكار وصياغة أساطير جديدة تخدم الأهداف الصهيونية، هي نتاج بنات أفكارهم، والمثل بين أيدينا هو أسطورة "المسادا" حيث الرواية الأسطورية للمسادا تختلف تمام الاختلاف عن الرواية الحقيقية الوحيدة التي تملكها أي رواية يوسيفوس فلافيوس.
فقد جرى خلق هذه الأسطورة بواسطة عمليات حذف دؤوبة لحقائق أساسية، وإضافة وتزييف حقائق لم تكن قائمة في رواية يوسيفوس.
المستشرق اليهودي برنارد لويس كان أحد أوائل الباحثين الذين اتخذوا موقفاً صارماً من رواية المسادا (1975) حيث أكد أن الرواية الحديثة للمسادا تشكل إحدى الحالات فيما يدعوه "التاريخ المختلق".
المؤرخ الفرنسي بيير فيدال – ناكيه – شاطر لويس رأيه، في المسادا بالقول "إن الرواية الأسطورية للمسادا كما يعرفها الإسرائيليون وغيرهم ليست سوى مجرد أسطورة وتلفيق".
الباحث الصهيوني نحمان يهودا يتساءل في سياق دراسته عن الطريقة التي تمت بها أسطرة المسادا "كيف تظهر أسطورة معينة في الواقع. لماذا تخلق؟ من قام بذلك؟ ماهي الظروف التي تنشأ فيها؟ كيف يجري بثها بين الناس؟ كيف يجري تعطيل الشك الطبيعي لدى الناس في قصص خيالية؟ وكيف يتم الحفاظ على ديمومتها؟".
من المعروف أن أسطورة المسادا تتحدث عن أن جماعة من المقاتلين اليهود الفارين من القدس بعد تدميرها على يد الجيش الروماني عام (70)م إلى المسادا خاضوا معركتهم الأخيرة ضد الجيش الروماني، وعندما أوشك هذا الأخير على احتلال قلعة المسادا اختار المقاتلون اليهود الانتحار الجماعي بدلاً من الاستسلام أمام الرومان والتحول إلى عبيد، أو الموت ميتة فظيعة.
وقد أصبحت هذه الأسطورة لدى الصهاينة رمزاً بطولياً لـ "الوقفة الأخيرة" كما قال ذات يوم موشي دايان.
وقد لعبت هذه الأسطورة لدى الصهاينة دوراً حاسماً في بلورة الهوية الفردية والجمعية الجديدة لأجيال من اليهود والإسرائيليين بين مطلع الأربعينيات وأواخر الستينيات.
لكن المكتشفات الأثرية لم تعثر في مكان المسادا سوى على ثلاث جثث لطفل ورجل وإمرأة مما يبرهن أن لا وجود لها كأسطورة وكحادثة تاريخية.
لا مبالاة نهج التسوية
اللامبالاة وعدم الاكتراث من قبل نهج التسوية في الساحة الفلسطينية تجاه علم الآثار ودوره في الصراع مع الكيان الصهيوني، شكل أكبر خدمة للمشروع الصهيوني.
ولا نبالغ إذا قلنا إنه ارتقى إلى مستوى الجريمة والفضيحة المدوية بكل المقاييس، الأمر الذي أدخل الآثار الفلسطينية في مرحلة التفريط، وذلك من خلال تضمين اتفاق أسلو بنداً خاصاً يسمح لدائرة الآثار الصهيونية بمواصلة التنقيب. وهكذا تتوحد لتحقيق هذا الهدف مع الأنشطة العسكرية والسياسية والآثارية الصهيونية.
وقد اتضحت تجليات هذا الاتفاق حين شرع في وضع حجر الأساس لفندق كبير وكازينو فوق موقع أثري مهم جداً على ساحل غزة، ولدى محاولة البعض لفت نظر الراحل ياسر عرفات إلى أهمية هذا المكان الأثرية صاح قائلاً" الحي أبقى من الميت"؟!
وقد جرى هذا في وقت تنبه في الفكر إلى أهمية علم الآثار في المعركة المحتدمة مع الصهيونية، وفي وقت يسترشد فيه الصهاينة بآراء حاخاماتهم في هذا الأمر ويتعاطون معه كمسألة إيمانية ووجودية.
يقول الباحث في الآثار الفلسطينية ورئيس مركز التراث الفلسطيني فيصل الخيري "إنه وبالتحديد منذ القرن الثاني الميلادي الذي شهد وضع التوراة على أيدي كتبة كهنة، نجد أنهم تنبهوا إلى أهمية التراث في تقرير مصير الأمم، وأدركوا منذ اللحظة الأولى أنه لن يتسنى لهم تأسيس كيان في فلسطين إلا إذا أبادوا تراث أصحاب الأرض الأصليين".
وها هم يحرضون اليهود على لسان إلههم يهوة في سفر التثنية "تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب التي على وجه الأرض".
يعلق فيصل الخيري على ذلك بالقول "هذه الأساطير هي التي شكلت نفسية اليهود على مر الأجيال وحددت موقفهم من تراث الشعوب التي يغتصبون أراضيها".