درس ليبي بليغ لقوى الاستعمار

درس ليبي بليغ لقوى الاستعمار

محمد أحمد الهوني*

يبدو أن أوروبا لم تغادر بعدُ دائرة ضلالها القديم وما تزال تعامل دول الجنوب بعقلية استعمارية استعلائية مع أن الزمن تغيّر كثيرا، والدول التي كانت مستعمرة منذ نصف قرن أصبحت دولا مستقلة وتمارس حقها في بناء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بحرية كاملة وفق مصالحها الخاصة، فكما تعقد اتفاقيات شراكة مع أوروبا تستطيع أن تُغيّرها وقتما تشاء وتستبدلها باتفاقيات مع الولايات المتحدة أو الصين أو اليابان أو غيرها من القوى الاقتصادية الكبرى التقليدية أو الصاعدة..

فالتحالفات صارت الآن تُبنى على أساس المصلحة وحدها، ولم يعُد الزمن يسمح لأي دولة مهما كان حجمها أو تاريخها أن تمارس الوصاية أو تُعطي الدروس لغيرها..

ولهذا تفاجأ الكثير من السياسيين والاقتصاديين بما أقدمت عليه سويسرا من وضع قائمة طويلة عريضة تمنع الليبيين من السفر إليها، هكذا دون قراءة العواقب التي ستترتّب ولا شك على هذا القرار غير المسؤول، فكيف يمكن في زمن الانفتاح الاقتصادي العالمي وسهولة تنقل رؤوس الأموال والاستثمارات الكبرى ورجال الأعمال أن تتخذ دولة، تزعم أنها منفتحة على العالم ومصدر ثقة مالية فيه، على مثل هذا القرار؟!

والأكثر من هذا، فهي لم تضع نفسها في ورطة، ولا هزّت ثقة أصحاب رؤوس الأموال في بنوكها وأمنها وارتهانها للشطحات السياسية فقط، بل وضعت أوروبا كلها في وضع سخيف جدا، أوروبا التي فقدت الكثير من هيبتها كقوة اقتصادية دولية وتحاول جاهدة أن تجد لها مكانا تحت شمس العولمة التي لا تعترف بماض ولا عنصرية عرقية، بل بمدى مرونة أي تحالف اقتصادي وربطه لشبكة واسعة من العلاقات والاستثمارات..

ولاستعادة وزنها الاقتصادي الدولي، انفتحت أوروبا جنوبا وأقامت علاقات شراكة فردية وجماعية مع دول من جنوب المتوسط، وخاصة مع ليبيا ذات الثقل السياسي والاقتصادي والموقع الاستراتيجي الذي يُطل بها على أفريقيا وآسيا وأوروبا، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يقول خلال زيارة أداها إلى طرابلس في صائفة 2007 إن "ليبيا هي بوابة أفريقيا"، ولقد أصبح الزعماء الأوروبيون يتعاملون مع ليبيا باعتبارها بوابة القارة والمالكة لمفاتيحها والقريبة من شعوبها.

ولأن سويسرا حاولت توظيف انتمائها لمؤسسات الاتحاد الأوروبي لامتصاص التداعيات السلبية لقرارها منع عشرات من الشخصيات الليبية من دخول أراضيها، فقد ردت ليبيا بالمثل ومنعت دخول رعايا منطقة "شنغن" لتضع أوروبا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الانحياز لمصالحها وترك سويسرا تتحمل تبعات شطحاتها السياسية، أو الانحياز لسويسرا وخسارة الامتيازات الكبيرة التي تضعها ليبيا أمام المستثمرين الأجانب وفقدان المشاريع الكثيرة التي تُديرها شركات أوروبية.

إنها ورطة حقيقية لأوروبا، وهو ما جعل وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني يتهم سويسرا علانية بأنها "ترتهن دول فضاء شنغن كافة" بقرارها، ويدعوها صراحة إلى "حل مشكلة ثنائية" مع ليبيا، ولكن "ليس على حساب الجميع"، مضيفا أن الموقف "حساس جدا".

وإن قوة الرد الليبي وسرعته ترسل بإشارات دقيقة وواضحة لأوروبا وغيرها بأن الزمن تغيّر وما على الجميع إلا أن يتغيّروا، وأن الشراكة تعني التكافؤ والمصلحة المشتركة والاحترام، فلا معنى لشراكة تتأسس على الشك والخوف والتعالي وسوء النية.

والحقيقة أن المواقف الليبية التي ارتبطت في الذهن العربي بهذه الجرأة مثل فرضها الاعتذار والتعويض على الفترة الاستعمارية الإيطالية شرطا لأي تعاون ثنائي، يمكن أن تكون دليلا يسير عليه العرب في فرض وضعية أفضل لتعاطي العالم مع قضاياهم ومصالحهم، وهو ما تسير عليه الجزائر أيضا في مطالبة فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري وإصرارها على أن يكون هذا الاعتذار أرضية لأية شراكة مستقبلية.

"التضامن" الكاذب الذي تبديه بعض الدوائر الأوروبية مع سويسرا لا شكّ أنه سيختفي سريعا مع خوف بعض الدول الأوروبية على مصالحها ومشاريعها، لكنه يدعو دول جنوب المتوسط، وبالذات الدول المغاربية إلى تحويل فضائها الجغرافي إلى تكتل اقتصادي قوي يستطيع أن يدافع عن مصالحها ويفرض على الآخرين التعامل معها بندية وتكافؤ، ولعل الاتفاقيات الأخيرة التي صدرت عن اللجنة الليبية الجزائرية المشتركة لبنة حقيقية لاتحاد مغاربي يقرأ له الآخرون ألف حساب.

وللدول المغاربية الكثير من الأوراق بيدها لفرض علاقات متكافئة مع أوروبا، أهمها ورقة الهجرة القادمة من جنوب الصحراء التي تقضّ مضاجع الأوروبيين وتهدد أمنهم، وورقة التعاون الأمني في مواجهة الجريمة المنظمة والإرهاب، وورقة العمالة المتخصصة التي ما تزال الاقتصاديات الأوروبية تحتاجها، فضلا عن ورقة النفط والغاز التي تمسك بها كل من ليبيا والجزائر..

إن الرسالة التي يحملها الموقف الليبي في مواجهة شطحات سويسرا مهمة ليفهم الأوروبيون وغيرهم أن من حق المواطن العربي أن تتم معاملته بنفس مستوى المعاملة التي يطلبها الأوروبيون والأمريكيون لمواطنيهم؛ فإذا كانت فرنسا أو الولايات المتحدة تريد تطبيق إجراءات صارمة فيها مس بكرامة العربي وتعد على خصوصياته الثقافية والدينية فمن الطبيعي أن تعمد دول عربية إلى المعاملة بالمثل ودون تردد ولا يحق لأحد محاججتها.

لكل هذا لا نملك إلا أن نحيي الموقف الليبي الذي لا يعد انتصارا لكرامة الإنسان الليبي وحده، بل لكرامة الإنسان العربي والأفريقي عموما، فقد آن لقوى الاستعمار العالمية أن تنتبه إلى أنه ما زالت في العالم أصوات للحرية لا يُرهبها ما يمتلكه الغرب من وسائل مادية وتقدم تكنولوجي، وستظل تنادي في كل الظروف بعولمة أخرى ذات طابع إنساني أخلاقي، تقوم على المساواة وتبادل الاحترام، مثلما تقوم على تبادل الخبرات والمنافع المادية.

ولعل أبلغ ملخص للدرس الليبي الجديد الموجه إلى الغرب أن من أراد أن يقيم معنا شراكة قوية فما عليه إلا أن يبادلنا احتراما باحترام..