وعندما بدأ الصراع والاختلاف يدب في أوصال الدولة الحميرية مطلع القرن السادس الميلادي أهتبل الأحباش الفرصة من جديد متدثرين بثوب الدين هذه المرة - وما أكثر مااستخدم الغزاة عبر التاريخ هذه الذريعة- حيث اكتسحوا اليمن في احتلالهم الشهير عام( 525 م) وقضوا تماماً على الدولة الحميرية، وعملوا على مد سيطرتهم نحو شمال الجزيرة في نجد والحجاز‘ وقد سجل القرآن الكريم حملتهم على مكة المكرمة عام ( 570 م) التي باءت بالفشل، ورغم المقاومة التي قادها ثوار اليمن ضد الأحباش إلا أنهم قد استمروا في احتلالهم نصف قرن من الزمان حتى تمكن سيف بن ذي يزن من طردهم منها عام( 575 م) بمعاونة الفرس الذين سرعان ما عملوا على التخلص منه وجعلوا اليمن مجرد ولاية فارسية واستمروا على ذلك الحال حتى ظهور الإسلام وإعلان واليهم في اليمن باذان إسلامه.
عملت الدولة الإسلامية الناشئة من أجل تحرير الأراضي العربية من سيطرة الفرس والبيزنطيين حيث دحرت الفرس من العراق ، ودحرت البيزنطيين من بلاد الشام ومصر والمغرب العربي، ثم امتدت دولة الخلافة الإسلامية في أوج اتساعها لتشمل المنطقة الممتدة من الصين شرقاً إلى فرنسا غرباً، وكانت الدولة الأقوى والأكبر في حينه.
· الصلبيين والتتار..همج الغرب والشرق يعيثون فساداً في ديار العرب والمسلمين:
عندما دب الصراع والخلاف بين شعوب الدولة الإسلامية من عرب وفرس وأتراك في العصر العباسي الثاني، وتقلصت سيطرة العرب لصالح الفرس والأتراك الذين أصبح الخلفاء ألعوبة في إيديهم بدأت القوى الإستعمارية القادمة من الغرب والشرق في اكتساح أراضيها، حيث سيطر الصليبيون القادمين من أوروبا- بدعوى تحرير بيت المقدس من المسلمين- على بلاد الشام ومصر وشمال العراق، ومارسوا أفضع الجرائم في حق العرب المسلمين ولم يسلم منهم حتى حجاج بيت الله الحرام الذين قتلوهم وهم في طريقهم إلى الأراضي المقدسة، وقد تزعم نور الدين زنكي عملية المقاومة ضدهم ومن بعده تولاها صلاح الدين الأيوبي الذي انتصر عليهم في معركة حطين عام( 1187 م) وتمكن من دحرهم من بيت المقدس، واستمرت مقاومة المسلمين لهم حتى عادوا من حيث أتوا.
وفي هذه الأثناء كان العالم الإسلامي يتعرض لموجة احتلال همجية جديدة قادمة من وسط آسيا ممثلة بالتتار(المغول) الذين اكتسحوا عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد وعاثوا فيها فساداً ، وكان من أبشع جرائمهم قيامهم بنهب مكتبات بغداد وإلقاء ما فيها من كتب في نهر دجلة، وقاموا بارتكاب الفضائع في حق العرب والمسلمين الأمر الذي بث الرعب والهلع بين صفوفهم وملأ قلوبهم ضعفاً واستسلاماً ، لكن الأمة مالبثت أن استعادت وعيها بفضل علمائها الذين عملوا على استنهاض همم الناس ، وكان في مقدمة الصفوف العز بن عبد السلام ، وكانت النهاية الطبعية لذلك متمثلة في الانتصار الكبير الذي حققه المسلمين على التتار في معركة عين جالوت عام( 1259 م) ومن بعدها توالت انتصارات المسلمين عليهم حتى طردوا مثلهم مثل غيرهم من السابقين لهم.
· سقوط الأندلس وظهور العثمانيين:
كانت دولة الخلافة الأموية في الأندلس شيدت حضارة مجيدة في عهد حكامها الأوائل ، لكن الصراعات العرقية بين سكانها المسلمين من عرب وبربر وصقالبة قد أدت إلى ضعف الدولة وتفككها إلى دويلات صغيرة وضعيفة فيما عرف بعصر الطوائف، الأمر الذي مكن الأسبان بمساعدة الأوربيين من القضاء عليها واحدة تلو الأخرى بعد أن أججوا الخلافات فيما بينها، وكانت نهاية المطاف دخول الأسبان إلى قرطبة عام( 1492 م) ومارسوا في حق المسلمين صنوف أنواع العذاب الجسدي والفكري، وأقاموا لهم محاكم التفتيش الرهيبة التي أنطلقت من تعصب أعمى مقيت بحيث شملت حتى محاكمة النوايا.
وقامت في الأندلس إثر ذلك دولتان هما أسبانيا والبرتغال الذين بدأوا يعملون من أجل السيطرة على البلدان العربية فهاجم الأسبان بلاد المغرب العربي بينما اتجه البرتغاليون شرقاً- بعد ان تمكنوا من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح - وهاجموا اليمن ومنطقة الخليج العربي وبدأوا يخططون للسيطرة على الحرمين الشريفين. وهنا تنبه العثمانيون للخطط البرتغالية فأوقفوا زحفهم نحو أوربا الذي كان قد وصل إلى أبواب فينا وقرروا الاتجاه نحو الوطن العربي لصد البرتغاليين والأسبان، وقد تمكنوا من انتزاع بلاد الشام من أيدي المماليك عام(1516م) ثم توالت فتوحاتهم في مصر والعراق واليمن وبلاد المغرب العربي، حيث أصبح الوطن العربي جزءً من الدولة العثمانية التي تمكنت من إيقاف الزحف الاستعماري الأوربي ضد الوطن العربي.
تقاسم تركة(الرحل المريض) في الوطن العربي بين الدول الأوربية:
عندما ضعفت الدولة العثمانية بدأت الدول الأوربية في التأمر عليها وأطلقت عليها إسم الرجل المريض وخططت لتقسيم أملاكها فيما بينها، وكانت فرنسا السباقة لمهاجمة مصر أواخر القرن الثامن عشر الميلادي الأمر الذي أثار حفيظة الدول الأوربية الأخرى وبدأت تعمل من أجل الحصول على جزء من الكعكة العربية، حيث تقاسمت الوطن العربي فيما بينها خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، وكان لبريطانيا وفرنسا حصة الأسد حيث سيطرت بريطانيا على مصر والسودان والعراق والأردن وفلسطين وجنوب اليمن وعمان وإمارات الخليج العربي، أما فرنسا فقد سيطرت على الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان، وكانت ليبيا من نصيب إيطاليا، أما أسبانيا فقد سيطرت على ريف المغرب وصحراءه.
وكان دخول الاستعمار الأوروبي إلى الوطن العربي على أشلاء كثير من أبناءه الذين استبسلوا في صده ودفعوا دمائهم رخيصة على ثراه الطاهر ، وقد سجل لنا التاريخ أروع البطولات التي ضربها المقاومين العرب بقيادة رموز تاريخية ستظل تتناقلها الأجيال بفخر واعتزاز مثل: عبد القادر الجزائري وأحمد عرابي ويوسف العظمة وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وغيرهم.
وقد امتدت المقاومة من بعدهم حيث تأسست حركات التحرير المنظمة في كل البلاد العربية وكان لها الفضل من بعد الله في دحر الإستعمار وتحرير الدول العربية واحدة تلو الأخرى خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
إسرائيل والإستعمار الجديد:
لم يرحل الإستعمار عن الوطن العربي إلا بعد أن زرع إسرائيل في قلبه فلسطين، حيث دخلت الدول العربية في صراع مع هذا الكيان الهجين الذي اعترفت به الدول الإستعمارية فور ولادته عام(1948م) وفي مقدمتها الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي زعماء العالم الجدد الذين مالبثوا أن دخلوا في صراع هدفه الهيمنة على العالم والسيطرة على مقدراته ، وكان الوطن العربي على رأس مخططاتهم نتيجة لموقعه الإستراتيجي الفريد وثروته البترولية الكبيرة، وقد انقسمت الدول العربية ووزعت ولاءها بين الطرفين الأمر الذي أنعكس على قضايا الأمة وجعل الأنظمة العربية في مواجهة بعضها، حيث تم القضاء على كل المحاولات العربية في الوحدة خصوصاً تلك التي تبناها الزعيم العربي جمال عبدالناصر.
وبعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ومعه المعسكر الشيوعي وظهور عالم القطب الواحد كان الوطن العربي والعالم الإسلامي هما الخاسر الأكبر من ذلك نظراً لتبني زعماء العالم الجدد لفكرة صراع الحضارات ، واعتبار العرب والمسلمين هم العدو الجديد تحت الاحتلال الجديد هي: العراق وأفغانستان والصومال والبقية في الطريق للحضارة الغربية بعد إنهيار الشيوعية. وكان نتيجة ذلك حتى الآن سقوط ثلاث دول عربية وإسلامية ، خصوصاً وقد أصبحنا نعيش في وضع مشابه لما كان سائداَ في عهد التتار بكل فضائعه الدموية والفكرية والرعب الذي ملأ القلوب..فهل يؤول هذا العصر إلى ما آل إليه عصر سيطرة التتار وينبثق عصر جديد من رحم هذا العصر المظلم؟؟..ذلك ماعودنا عليه التاريخ وتلك سنة الله في أرضه(وتلك الأيام نداولها بين الناس) ولكن بشروط (إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (وكيفما تكونوا يولى عليكم)..وتلك هي البداية.
محاضرة قدمها الاستاذ عبدالله ابو الغيث ستاذ التاريخ بجامعة صنعاء في ندوة فكرية للمركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل