مدخل:
يعرف التاريخ بأنه "معرفة الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل"وبذلك فإن المهمة الحقيقية لأي مؤرخ ودارس تاريخ ومهمتنا كأحفاد لأولئك الأجداد الذين تركوا لنا ذلك التاريخ إنما تتمثل في استقاء العظات والعبر من بين سطوره من أجل تجسيد إيجابياتها وتجنب سلبياتها في واقعنا المعاش.
ولقد شهد الوطن العربي عبر تاريخه الطويل العديد من قوى الاحتلال والهيمنة الأجنبية التي عملت من أجل السيطرة على مقدراته ونهب ثرواته والتحكم بموقعه الإستراتيجي الفريد‘ ومارست الذل والإحتقار ضد أهله وناسه؛ الذين بدورهم لم يستكينوا أو يستسلموا ولكنهم اندفعوا نحو مقاومة تلك القوى الإستعمارية من أجل طردها من على ثرى الأرض العربية الطاهرة؛ في قصص يفخر بها الزمان تم تخليدها في كل شبر من أراضي الوطن العربي المترامية الأطراف: على أحجاره ورقمه وبردياته ومسانده ومخطوطاته ووثائقه ومدوناته التاريخية.
وموضوع المقاومة العربية لقوى الإحتلال موضوع كبير يحتاج إلى أسفار عديدة لتدوينه ليكون نبراساً يهتدي به الأحفاد وهم سائرون على درب أجدادهم ، ونحن من خلال هذه المحاضرة إنما نقدم رؤوس مواضيع نسلط من خلالها الضوء على تلك المقاومة علنا نلفت أنظار الجهات المعنية بتدوين التاريخ إلى أهمية تدوين هذا الجزء من التاريخ التليد للأمة العربية المجيدة .
· ظهور موجات الاحتلال الأولى في الوطن العربي:
تعرض الوطن العربي لموجات الإحتلال إبتداءً من فجر تاريخه وبالتحديد من أواخر الألف الثالث قبل الميلاد عندما أجتاح الجوتيون القادمين من جبال إيران بلاد الرافدين وعاثوا فيها فساداً ، وقاموا بتدمير مدينة أكد ومحوا معالمها إلى درجة جعلت المؤرخين يعجزون عن تحديد موقعها حتى الآن. وقد تميزت فترة سيطرتهم على بلاد الرافدين بالذل والقهر الذي فرضوه على أبناءه ونظرتهم بعنجهية إلى تفوقهم الحضاري ، وهو ما جعلنا نجعلهم في مقدمة موجات الاحتلال التي تعرض لها الوطن العربي رغم أن بعض الموجات قد سبقتهم في استيطانه؛ ولكن في هجرات سلمية اندمجت بسكانه وأثرت وتأثرت بحضارته.
وقد شهد الوطن العربي في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد اكتساح استعماري آخر تمثل بتلك الأقوام القادمة من وسط آسيا على أرجح الآراء التي اجتاحت العديد من البلدان العربية حيث عرفوا بمسميات مختلفة في المناطق التي سيطروا عليها؛ ففي العراق عرفوا بالكاشيين وفي سوريا بالحوريين وفي مصربالهكسوس، وقد واجهتهم شعوب المنطقة بالمقاومة التي اشتركت فيها كل فئات المجتمع بما فيهم النساء حيث نجد في مصر مثلاً أن أعح حتب زوجة الملك المصري سقنن رع قد تولت عملية قيادة المقاومة المصرية ضد الهكسوس بالإشتراك مع ولديها كامس وأحمس وذلك بعد سقوط زوجها صريعاًًًًً في ميدان المعركة.
· الفرس الأخمينيين يكتسحون المشرق العربي:
كان الأخمينيون يحكمون في بلا فارس وقد دخلوا في صراع مع الدولة الآشورية وعملوا من أجل القضاء عليها حيث دعموا حركات التمرد ضد حكمها وتحالفوا مع الكلديين الذين تمكنوا من اسقاط الدولة الآشورية عام (612 ق.م) واقاموالدولة البابلية الحديثة، وعندما وجد الأخمينيون أن الدولة الكلدية(البابلية الحديثة) قد سارت على خطى سابقتها في التعامل معهم كنوا لها العداء وبدأويعملون من أجل إسقاطها هي الأخرى حيث وجدوا الفرصة مواتية لهم عندما أنتقل الملك الكلداني الأخير نبونئيد من بابل إلي تيماء في شمال الحجازليتخذها مقراً لإقامته حيث اكتسحوا بابل بقيادة ملكهم قورش وابنه قمبيز عام(539 ق.م) ثم واصلوا زحفهم نحو سوريا وفينيقيا ومصر وقد لعب اليهود دوراً رئيساً في دعم السيطرة الفارسية على المنطقة وبالمقابل أعتمد عليهم الفرس في إدارة البلاد المفتوحة وإخماد مقاومة شعوبها. وقد تعامل الأخمينين مع شعوب المنطقة بقسوة إلا أن ذلك لم يمنع إشتعال المقاومة ضدهم طوال فترة سيطرتم.
· الإسكندر المقدوني وبداية الأطماع الأوربية في الوطن العربي:
عندما ظهر الإسكندر المقدوني غازيا في الشرق في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد رحبت به شعوب المنطقة العربية في بداية الأمرونظرت إليه على أنه مخلص لها من نير الاحتلال الفارسي حيث حل بدلاً عنهم في احتلال سوريا وفينيقيا ومصر والعراق، ورغم أن الإسكندر المقدوني قد أظهر احترامه للحضارة الشرقية رغبة منه في كسب ود أهل البلاد المفتوحة إلا أنه قد ضرب بعنف المدن التي أظهرت له المقاومة ورفضت الخضوع لسيطرته مثل مدينتي صور وغزة التي ضربت أروع الأمثلة في الصمود والمقاومة تجاه الاحتلال اليوناني القادم من أوروبا، وقد باغت الموت الاسكندر وهو يخطط لاحتلال الجزيرة العربية خصوصاً اليمن لينتزع من أهلها تجارة البخورالذي يدر عليهم أرباح طائلة.
وبعد وفاته تقاسم قادته المنطقة وأنشأوا لهم دولاً فيها حيث قامت الدولة السلوقية في سوريا والعراق وقامت الدولة البطلمية في مصر وقد واصلت الأخيرة مشروع الإسكندر المتمثل في انتزاع السيطرة على الطريق التجاري من أيدي اليمنيين حيث تمكنوا بالفعل من تحويل جزء كبير من تجارة الطريق البري المار عبر الجزيرة العربية إلى طريق البحر الأحمر الواقع تحت هيمنتهم الأمر الذي أثر سلباً على أوضاع اليمنيين وسكان ااجزيرة العربية عموماً. وقد ظلت دولتي السلوقيين والبطالمة تحكم في المنطقة حتى ظهور الرومان في القرن الأول قبل الميلاد رغم المقاومة التي تعرضوا لها خصوصاً من دولة الأنباط العربية التي كانت تحكم في منطقة الأردن وفلسطين خلال هذه الفترة.
·