وبعد الحربين اللتين مر ذكرهما شن هرقل ثلاث حروب أخرى ضد الفرس في سنوات 623، 624، 625م. واستطاع أن ينفذ إلى أراضي العراق القديم(ميسو بوتانيا) عن طريق البحر الأسود، وأضطر الفرس إلى الانسحاب من جميع الأراضي الرومية، نتيجة هذه الحروبن وأصبح " هرقل " في مركز يسمح له بالتوغل في قلب الإمبراطورية الفارسية، وكانت آخر هذه الحروب المصيرية ـ تلك الحروب التي خاضها الفريقان في " نينوا" على ضفاف " دجلة " في ديسمبر عام 627م.
ولما لم يستطيع " كسرى أبرويز" مقاومة سيل الروم، حاول الفرار من قصره الحبيب "دستكرد" ولكن ثورة داخلية نشبت في الإمبراطورية، واعتقله ابنه " شيرويه"، وزج به في سجن داخل القصر الملكي، حيث لقي حتفه، لسوء الأحوال في اليوم الخامس من اعتقاله، وقد قتل ابنه " شيرويه " ثماني عشرة من أبناء أبيه " كسرى" أمام عينيه .
ولكن " شيرويه" هو الآخر لم يستطع أن يجلس على العرش أكثر من ثمانية أشهر، حيث قتله أحد أشقائه، وهكذا بدأ القتال داخل البيت الملكي، وتولى تسعة ملوك زمام ملوك الحكم في غضون أربعة أعوام. ولم يكن من الممكن، أو المعقول في هذه الأحوال السيئة، أن يواصل الفرس حربهم ضد الروم...
فأرسل " قباد الثاني" ابن كسرى أبرويز الثاني يرجو الصلح، وأعلن تنازله عن الأراضي الرومية، كما أعاد الصليب المقدس، ورجع " هرقل" إلى عاصمته " القسطنطينية " في مارس عام 628م، في احتفال رائع، حيث كان يجر مركبته أربعة أفيال، وأستقبله آلاف مؤلفة من الجماهير، خارج العاصمة، وفي أيديهم المشاعل، وأغصان الزيتون(11)!!
وهكذا صدق ما تنبأ به القرآن الكريم عن غلبة الروم في مدته المقررة، أي في أقل من عشر سنين، كما هو المراد في لغة العرب من كلمة : " بضع " !
وقد أبدى " جبن " حيرته، وإعجابه بهذه النبوءة، ولكنه كي يقلل من أهميتها ربطها برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى " كسرى" .
يقول جبن :
" وعندما أتم الإمبراطور الفارسي نصره على الروم، وصلته رسالة من مواطن خامل الذكر من "مكة" دعاه إلى الإيمان بمحمد، رسول الله، ولكنه رفض هذه الدعوة، ومزق الرسالة..
وعندما بلغ هذا الخبر رسول العرب، قال : سوف يمزق الله دولته تمزيقاً، وسوف يقضي على قوته".
" ومحمد الذي جلس في الشرق على حاشية الإمبراطوريتين العظيمتين، طار فرحاً، مما سمع عن تصارع الإمبراطوريتين وقتالهما، وجرؤ في إبّان الفتوحات الفارسية وبلوغها القمة أن يتنبأ بأن الغلبة تكون لراية الروم بعد بضع سنين، وفي ذلك الوقت، حين ساق الرجل هذه النبوءة، لم تكون أية نبوءة أبعد منها وقوعاً، لأن الأعوام الإثني عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تشي بنهاية الإمبراطورية الرومانية " (12).
بيد أن جميع مؤرخي الإسلام يعرفون معرفة تامة أن هذه النبوءة لا علاقة لها بالرسالة التي وجهها النبي إلى " كسرى أبرويز"، لأن تلك الرسالة إنما أرسلت في العام السابع من الهجرة، بعد صلح الحديبية، أي عام 628م، في حين أن آية النبوءة المذكورة نزلت بمكة عام 616م، أي قبل الهجرة بوقت طويل، فين الحدثين فاصل يبلغ اثني عشر عاماً (13).
أما وجه الإعجاز: تنبأ القرآن بهزيمة الفرس على أيدي الروم في بضع سنين وقد كان.
كما أنه هناك وجه إعجازي آخر في هذه الآيات، وهي أنها تقرر حقيقة جغرافية لم تكن معروفة عند أحد في ذلك الوقت.
فالآية الثالثة من سورة الروم خسروا المعركة في أدنى الأرض قال تعالى
غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).
و تعبير " أدنى الأرض" في العربية يعني حسب بعض التفاسير مكاناً قريباً، ولكن هذا التفسير مجازي، لأن كلمة أدنى لم تأتي في هذه الآية بهذا المعنى فكلمة أدنى باللغة العربية مشتقة من دنا يدنو بمعنى القريبة، وتأتي بمعنى المنخفض، والأرض تعني العالم. و لذلك فإن أدنى الأرض معناها أكثر الأمكنة انخفاضاً في العالم .
و المثير للاهتمام أن أهم مراحل الحرب التي كانت بين الروم والفرس وأسفرت عن هزيمة الروم وخسارتهم للقدس، حصلت في أكثر مناطق العالم انخفاضاً في حوض البحر الميت الذي يقع في منطقة تتقاطع فيها كل من سوريا و الأردن و فلسطين و يبلغ مستوى سطح الأرض هنا 395 متراً تحت سطح البحر ، مما يجعل هذه المنطقة فعلاً أدنى منطقة من الأرض .
و أهم ما في الأمر أن ارتفاع البحر الميت لم يكن ليقاس في غياب تقنيات القياس الحديثة، ولذلك كان من المستحيل أن يعرف أي شخص في ذلك الوقت أن هذه المنطقة أكثر المناطق انخفاضاً في العالم، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة ذكرت في القرآن و هذا يؤكد مرة أخرى على أن القرآن هو وحي إلهي .
تنبيه :
تم نقل القسم الأول من المقالة عن كتاب شبهات حول القرآن وتفنيدها تأليف الدكتور غازي عناية ولكن بتصرف.
القسم الثاني عن كتاب هارون يحيى معجزة القرآن .
مقالات ذات صلة :
الرد على منكري الإعجاز في سورة الروم بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
الهوامش :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Western Civilization,p.210
The history of decline and fall of the Roman Empire ,by Empire ,by Edward Gibbon
(ص ـ 76ـ ج 5)
Talent ميزان يوناني قديم، حوالي ستة وعشرين كيلوا جراماً، لدى الأثينيين وقد يطلق على كمية النقود الذهبية أو الفضية التي تزنه.
الثوب : ثلاثون متراً من القماش تقريباُ .
ص ـ 74 المجلد 5.
أرقاديوس (377ـ 408م )، أحد أباطرة الرومان، وهو الابن الأكبر لتيودوس الأول تولى العرش سنة 395م ، وأشتهر بالجبن ـ المراجع .
قيصر أو " سيزار " (144ـ 101 ق.م) قائد وسياسي روسي عظيم.
ص ـ 76 ـ 77 المجلد الخامس .
جبن : ص ـ 94 ، ج ـ 53
المرجع السابق ، ص 73 ـ 74
Encyclopaedia of Religion and Ethics