وأصبح فوكاس ملك الروم، بعد نجاح الثورة، والقضاء على العائلة الملكية بطريقة وحشية، وأرسل سفيراً له إلى إمبراطور إيران " كسرى أبرويز الثاني " وهو ابن " أنوشيروان " العادل.
وكان " كسرى " هذا مخلصاً للملك " موريس"، إذ كان قد لجأ إليه عام 590ـ 591م، بسبب مؤامرة داخلية في الأمبراطورية الفارسية، وقد عاونه " موريس" بجنوده لإستعادة العرش. ومما يروى أيضاً أن " كسرى " تزوج بنت " موريس"، أثناء إقامته ببلاد الروم، ولذلك كان يدعوه " بالأب" .
ولما عرف بأخبار انقلاب الروم، غضب غضباً شديداً، وأمر بسجن السفير الرومي، وأعلن عدم اعترافه بشرعية حكومة الروم الجديدة.
وأغار " كسرى أبرويز" على بلاد الروم، وزحفت جحافله عابرة نهر الفرات إلى الشام. ولم يتمكن " فوكاس" من مقاومة جيوش الفرس التي استولت على مدينتي " انطاكية والقدس"، فاتسعت حدود الإمبراطورية كالنسطورية، واليعقوبية ـ حاقدة على النظام الجديد في روما، فناصرت الفاتحين الجدد، وتبعها اليهود، مما سهل غلبة الفرس.
وأرسل بعض أعيان الروم رسالة سرية إلى الحاكم الرومي في المستعمرات الإفريقية يناشدونه إنقاذ الإمبراطورية، فأرسل الحاكم جيشاً كبيراً بقيادة ابنه الشاب " هرقل " فسار بجيشه في الطريق البحرية، بسرية تامة .. حتى إن " فوكاس" لم يدر بمجيئهم إلا عندما شاهد الأساطيل وهي تقترب من السواحل الرومانية، واستطاع هرقل ـ دون مقاومة تذكر أن يستولي على الإمبراطورية، وقتل " فوكاس" الخائن.
بيد أن هرقل لم يتمكن، برغم استيلائه على الإمبراطورية، وقتله " فوكاس" من إيقاف طوفان الفرس.. فضاع من الروم كل ما ملكوا من البلاد في شرقي العاصمة، وجنوبيها. لم يعد العلم الصليبي يرفرف على العراق، والشام، وفلسطين، ومصر، وآسيا الصغرى، بل علتها راية الفرس: " درفش كاوياني " !!!
وتقلصت الإمبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسدت جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس، وعم القحط، وفشت الأمراض الوبائية، ولم يبق من الإمبراطورية، غير جذور شجرها العملاق. وكان الشعب في العاصمة خائفاً يترقب ضرب الفرس للعاصمة، ودخولهم فيها، وترتب على ذلك أن أغلقت جميع الأسواق، وكسدت التجارة، وتحولت معاهد العلم، والثقافة إلى مقابر موحشة مهجورة .
وبدأ عباد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية..
فبدأوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدسة، ودمروا الكنائس، وأراقوا دماء ما يقرب من 100.000من المسيحيين المسالمين. وأقاموا بيوت عبادة النار في كل مكان، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار، واغتصبوا الصليب المقدس، وأرسلوه إلى " المدائن" .
ويقول المؤرخ " جبن" في المجلد الخامس من كتابه:
" ولو كانت نوايا " كسرى " طيبة في حقيقة الأمر، لكان اصطلح مع الروم بعد قتلهم "فوكاس"، ولاستقبل " هرقل " كخير صديق أخذ بثأر حليفه، وصاحب نعمته " موريس"، بأحسن طريقة، ولكنه أبان عن نواياه الحقيقة عندما قرر مواصلة الحرب " (3).
ويمكن قياس الهوة الكبرى التي حدثت بين الروم والفرس من خطاب وجهه " كسرى" إلى " هرقل" من بيت المقدس، قائلاً :
" من لدن الإله كسرى، الذي هو أكبر الآلهة، وملك الأرض كلها، إلى عبده اللئيم الغافل هرقل: إنك تقول: إنك تثق في إلهك! فلماذا لا ينقذ إلهك القدس من يدي!؟
واستبد اليأس، والقنوط بهرقل من هذه الأحوال السيئة، وقرر العودة إلى قصره الواقع في " قرطاجنة" على الساحل الإفريقي.. فلم يعد يهمه أن يدافع عن الإمبراطورية، بل كان شغله الشاغل إنقاذ نفسه.. وأرسلت السفن الملكية إلى البحر، وخرج " هرقل" في طريقه ليستقل إحدى هذه السفن إلى منفاه الاختياري.
وفي هذه الساعة الحرجة تحايل كبير الأساقفة الروم باسم الدين والمسيح، ونجح في إقناع " هرقل" بالبقاء، وذهب " هرقل" مع الأسقف إلى قربان" سانت صوفيا " يعاهد الله تعالى على أنه لن يعيش أو يموت إلا مع الشعب الذي أختاره الله له .