ولكن هناك خشية لدى "إسرائيل" مما تعتبره "مرور الوقت": أي أن يتيح التفاوض الأمريكي- الإيراني إذا طال أمده حصول إيران على القنبلة النووية. وبما أنها لا تستطيع منع إدارة أوباما من خيار التفاوض والحوار، فإن "إسرائيل" قد تدعو هذه الإدارة إلى أن يكون حوارها مع إيران مشروطاً ومحدداً بسقف زمني، بحيث يتبين بعدها صدق أو حقيقة النوايا الإيرانية في الالتزام ببرنامج نووي سلمي، أو أن يتبين خلاف ذلك، وعندها سيكون لدى القادة الإسرائيليين ما يبرر العمل العسكري من دون أي معارضة أمريكية أو أوروبية.
ثانياً: الموقف الأمريكي
يبدو الموقف الأمريكي حاسماً تجاه النوايا والاستعدادات الإسرائيلية لضرب إيران، فهو لا يكتفي فقط بعدم تشجيع أي خيار عسكري، بل يعارض بقوة مثل هذا الخيار في هذه المرحلة، حتى لو كانت إيران هي الخطر الأول على الدولة العبرية. لا بل تختلف الإدارة الأمريكية مع الرؤية الإسرائيلية حول أولويات الحل في منطقة الشرق الأوسط، فبدلاً من "إيران أولاً"، ترى هذه الإدارة أولوية التقدم على المسار الفلسطيني بإعلان الموافقة على حل الدولتين؛ لأن هذا الإعلان، وفقاً للمنظور الأمريكي، يمكن أن يساعد في تشكيل جبهة عربية أمريكية إسرائيلية لعزل إيران. في حين يرى نتنياهو وليبرمان أن معالجة الملف النووي الإيراني أولاً هو الذي يمكن أن يتيح التقدم في الملف الفلسطيني؛ لأن إيران بإمكانها تعطيل أي تقدم يحصل على هذا المستوى، لذا يجب الحد من قدرة إيران – ووقف برنامجها النووي - قبل الانتقال إلى الملف الفلسطيني.
وتذهب الإدارة الأمريكية أبعد من ذلك، بتحذير المسؤولين الإسرائيليين بشكل واضح "من مفاجأة واشنطن بعملية عسكرية ضد إيران"، وهو تحذير نقله رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ليون بانيتا (25/5/2009). لماذا؟ لأن مثل هذه الخطوة كما يقول رئيس هيئة أركان القوات الأمريكية المشتركة مايكل مولن "من شأنها أن تعرض المنطقة بأسرها إلى الخطر" (28/3/2009)، في حين اعتبر نائب الرئيس جو بايدن أن مهاجمة "إسرائيل" لإيران ستكون نوعاً من "التهور" (9/4/2009). أما وزير الدفاع روبرت غيتس، فقال إنه "سيفاجأ إن بادرت إسرائيل إلى شن عملية عسكرية ضد إيران"، وحذر في الوقت نفسه من عملية مماثلة، "لأن ذلك لن يؤدي سوى إلى تأجيل البرنامج النووي، وزيادة التصميم الإيراني، وأن الضربة ستكون لها عواقب وخيمة، وستؤجج مشاعر الكراهية ضد الجهة المسؤولة" عنها (17/4/2009).
إذن، فالإدارة الأمريكية لا تؤيد في الوضع الراهن ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران، والإدارة الأمريكية الجديدة تريد من الحكومة الإسرائيلية إعلان تأييد "حل الدولتين"، والتراجع عن بناء المستوطنات، مما سيسمح للدول العربية المعتدلة الادعاء بتحقيق تقدم فعلي على المسار الفلسطيني.
ثالثاً: السيناريوهات المحتملة
ما هي الخيارات المتاحة في ظل المعطيات السابقة أمام "إسرائيل" للتعامل مع ما يسمى "الخطر الوجودي الإيراني"؟ وما هو انعكاس السيناريوهات المفترضة على الشرق الأوسط عموماً وعلى القضية الفلسطينية خصوصاً؟
السيناريو الأول: أن تلجأ إلى ضربة عسكرية - خاطفة خلال ساعات- لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، فتطيح مشروع الحوار الأمريكي- الإيراني المرتقب. وتخشى الحكومة الإسرائيلية من توجهات الإدارة الأمريكية التي ألمحت إلى غطاء جوي نووي لحماية "إسرائيل"، ما يعني ضمناً التسليم بقدرات إيران النووية.
وترى "إسرائيل" في سياسات أوباما مرحلة جديدة تختلف كثيراً عن مرحلة الدعم غير المحدود وغير المشروط التي عرفتها مع إدارة جورج بوش (عدم التطابق في وجهات النظر بين أوباما ونتنياهو بعد زيارة الأخير إلى البيت الأبيض في 18/5/2009). وتعتقد الحكومة الإسرائيلية أنه ليس لأوباما أي مصلحة في عمل عسكري ضد إيران مع حاجته إلى الحوار معها لترتيب الأوضاع المتداعية في أفغانستان وباكستان، كما أن الأزمة الاقتصادية تلجم قدرات القوى العظمى كلها، وكل واحدة من هذه القوى تحتاج حاجة ماسة إلى إرجاء المواجهات الدولية وتفاديها (كيسنجر 29/4/2009). هكذا يصبح الخيار العسكري بمثابة "ضربة استباقية" تقلب الأمور رأساً على عقب وترغم إدارة أوباما على الوقوف إلى جانب "إسرائيل" وعلى التراجع ليس فقط عن فكرة الحوار مع إيران، بل والتوقف عن ممارسة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لقبول حل الدولتين. كما ستتراجع كذلك التوجهات الغربية للحوار مع حركة حماس.
في مثل هذا السيناريو، لن تكون "إسرائيل" مرغمة على استمرار التفاوض مع سوريا مع إعلان نتنياهو رفضه الانسحاب من الجولان، وعلى الأرجح ستغتنم القيادة الإسرائيلية فرصة الحرب لتوجيه ضربات قاسية إلى قيادات حركة حماس وقيادات المقاومة في فلسطين؛ لأن العالم كله سينشغل طويلاً باحتواء مثل هذه الضربة. وستتوقف المفاوضات حتى مع السلطة الفلسطينية، أي ستكون "إيران أولا" وليس القضية الفلسطينية هي المشكلة الرئيسة التي يجب على العالم حلها.
ويواجه هذا السيناريو أحد احتمالين:
الأول هو أن تنجح "إسرائيل" في تدمير قسم من المنشآت النووية الإيرانية وتعجز إيران عن الرد في الوقت المناسب، أي تحقق "إسرائيل" انتصاراً خاطفاً. وفي مثل هذه الحالة من الطبيعي ألاّ تقدم الحكومة الإسرائيلية أي تنازل لا بشأن الدولتين ولا المستوطنات ولا المبادرة العربية للسلام، وستتحول الضغوط العربية والإسرائيلية والدولية إلى حركات المقاومة - حماس بالدرجة الأولى - لدفعها إلى القبول بكل ما كانت ترفضه في السابق من الاعتراف بإسرائيل إلى القرارات الدولية إلى ما وقعته السلطة مع "إسرائيل" من اتفاقيات.
والاحتمال الثاني أن ترد إيران بقوة على العدوان الإسرائيلي حتى لو نجح هذا الأخير في تدمير بعض المنشآت النووية، مما سيشعل المنطقة كلها ويضعها أمام احتمالات واسعة من امتداد اللهيب. أي أن ميزاناً جديداً للقوى سينشأ بعد هذه الحرب قد يدفع الحكومة الإسرائيلية إذا خسرت المواجهة إلى التراجع والاعتراف بحل الدولتين. وستكون حركات المقاومة في فلسطين ولبنان هي المستفيد الأول من الوضع الجديد، لكن هذا الاحتمال قد يزيد المخاوف العربية من إيران، وسيرغم الولايات المتحدة على الوقوف مجدداً بقوة إلى جانب "إسرائيل" حتى لا تضطر إلى تقديم أي تنازلات إضافية.
السيناريو الثاني: أن تنتظر "إسرائيل" - رغماً عنها - نتائج الحوار الأمريكي مع إيران، فلا تقدم على أي عمل عسكري يغضب إدارة أوباما ويربك حساباتها الإقليمية مع حلفائها العرب الذين يرغبون - بعد سنوات طويلة من التفاوض - في تحقيق أي اختراق على المسار الفلسطيني (مثل الموافقة على حل الدولتين). وفي مثل هذه الحالة لن تعمد إدارة نتنياهو إلى تقديم أي تنازلات فعلية، لا للطرف الفلسطيني ولا للطرف السوري، حتى لو استؤنفت المفاوضات؛ لأن استراتيجية "إسرائيل" في هذه الحالة ستكون استراتيجية "الانتظار والتأجيل". ومن المحتمل أن تعمد في هذه الفترة إلى: الاغتيالات، ورفض مشاركة حماس في أي حكومة، ورفض التفاوض مع حكومة فيها حماس، ومزيد من التعاون – والتطبيع - مع الدول العربية "المعتدلة"، والتحريض على إيران والتخويف من برنامجها النووي، مع استمرار الاستعداد لضربة عسكرية ضد إيران. ولن تتوقف حكومة نتنياهو عن بناء المزيد من المستوطنات، مع تركيزها على توسيع شقة الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية، التي يبدو أنها ستستمر مع تشكيل حكومة جديدة لم تحظ بالتوافق الوطني بين الفصائل كافة. لكن "إسرائيل" لن تتراجع في أثناء "الانتظار" عن تكرار التأكيد على الخطر الإيراني عربياً وعالمياً، وعن الدعوة إلى مزيد من العقوبات ضد طهران.
رابعاً: الاحتمالات والتداعيات
يبدو أن حكومة نتنياهو- ليبرمان لن تجرؤ على المجازفة باختيار السيناريو الأول للأسباب التالية:
1. حزم الرئيس الأمريكي الصارم والواضح في رفض هذا الخيار، الذي سيربك كل استراتيجيته في الشرق الأوسط.
2. عدم الإجماع الإسرائيلي الداخلي حول هذا السيناريو.
3. الخشية من رد الفعل الإيراني الواسع في ظل استعداد طهران الجدي على المستوى العسكري لهذا النوع من الرد.
مما يعني أن الحكومة الإسرائيلية ستكون مرغمة على التراجع عن التهديد المتواصل بضرب إيران، خاصة وأن الرئيس الأمريكي ألمح إلى فترة زمنية للتأكد من رغبة إيران في الحوار هي نهاية العام الحالي، تتضح خلالها قدرته على معالجة الوضع في باكستان وأفغانستان، أي أن على "إسرائيل" الانتظار حتى تلك الفترة قبل أن تفكر بأي عمل عسكري. ولعل الرئيس أوباما سيحاول في هذه الفترة "انتزاع" بعض التنازلات من نتنياهو، ترضي حلفاءه العرب، وتعزز وضع السلطة الفلسطينية، وتضعف حماس والقوى الأخرى المعارضة؛ مثل وقف بناء المستوطنات، أو إطلاق أسرى فلسطينيين، أو فتح المعابر والعودة إلى الحوار مع السلطة الفلسطينية، حتى لو لم يعلن نتنياهو التزامه بدولة فلسطينية، أو بحل الدولتين. أي أننا سنكون أمام أشهر إضافية من المراوحة دون أي تقدم فعلي ودون أية التزامات جدية أساسية من الجانب الإسرائيلي، ولكن الحكومة الإسرائيلية ستعمد خلال هذه الفترة على الأرجح إلى توسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية، على قاعدة تطويق "التطرف الفلسطيني" المتحالف مع إيران التي تعرقل عملية السلام. وهذا يستدعي الانتباه إلى عدم الانزلاق إلى ما يريده الإسرائيليون والأمريكيون من تصاعد الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، واليقظة من عمليات اغتيال لقادة المقاومة، أو من عمليات عسكرية محدودة في داخل غزة تحديداً، وعدم التهاون إعلامياً وسياسياً مع محاولات تشكيل جبهة عربية - إسرائيلية تحت عنوان مواجهة "الخطر الإيراني" في المنطقة.