، فيجب عليها أولا أن تتوقف عن ممارسة التعذيب أو تزوير الانتخابات أو تكبيل الصحافة وحرية التعبير ، لأنه عندئذ فقط سوف يصبح الحديث عن مثل هذه الانتهاكات مجرد أكاذيب لن يصدقها أحد. أما أن تغضب الحكومات ممن يطالبون بوقف التعذيب أو من يكشفون عنه ، فلتستمر في غضبها ، لأن كشف الانتهاكات وفضحها هو ضمن الوسائل التي تستخدمها مؤسسات حقوق الإنسان ، والسكوت عنها يعد تواطؤا ومشاركة فيها.
وينطبق هذا على الحكومات البوليسية التي تضع مؤسسات حقوق الإنسان في سلة المعارضة ، فقط لأنها تكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان المسكوت عنها، لاسيما وأن عمل مؤسسات حقوق الإنسان قريب من السياسة ، لكنه ليس حزبيا ، بمعنى أن المؤسسات الحقوقية تسعى لإصلاح السلطة السياسية وليس للاستيلاء عليها. ومثلما تحدثنا عن المؤسسات الجادة التي لا تغمض عينها عن الانتهاكات ، فهناك مؤسسات حقوقية تتواطأ مع بعض الحكومات وتغمض عينها عن الانتهاكات سواء في مقابل تسهيلات معينة، أو عقد صلات طيبة، أو للوجاهة الاجتماعية. وهؤلاء أقرب لتجار السلع الفاسدة ، وينطبق عليهم ما ينطبق على التمويل المشبوه أو أوجه إنفاقه. ثم أن سمعة البلاد ليست حكرا على أحد، ولا يوجد متحدث رسمي يمكنه احتكار الحديث عن هذه السمعة. رابعا :حركة حقوق الإنسان تساؤلات حول الجدوى والتأثير والانتقائية بالرغم من كثرة مشاكل العالم العربي إلا إن عدد العاملين في مجال حقوق الإنسان قليل جدا ، خاصة في دول الخليج العربي ، و هذا يمثل عائقا يحول دون إيصال كثير من الشكاوي إلى الجهات التي قد تسهم في حلها . وكذلك سيطرة أغلب الحكومات على وسائل الإعلام الرئيسية ، مثل الصحف والتليفزيون والراديو ، تجعل هذه الحكومات تحاول جاهدة حصار وتهميش المؤسسات الحقوقية ، عبر تجاهلها أحيانا أو عبر التشهير بها أحيانا أخرى.
لذلك ورغم الجهود التي تبذلها العديد من مؤسسات حقوق الإنسان ، فإن الكثير من المواطنين لا يسمعون بها سوى بشكل بسيط وقد تكون المعلومات التي تنتشر عن هذه المؤسسات تستهدف تشويهها أساسا. كذلك فإن العديد من المواطنين يظنون أن هذه المؤسسات تمتلك تأثيرا وصلاحيات واسعة أكثر من حجمها الحقيقي، فيطرحون عليها مشاكل وقضايا قد تتجاوز قدراتهم ، مثل مشكلة تلوث المياه، أو الإضرابات العمالية، أو حرية الصحافة، أو تزوير الانتخابات ، وبالطبع هذه المشاكل رغم أهميتها ، فلن تحل بين يوم وأخر أو بمجرد علم المؤسسات الحقوقية بها ، بل هي تحتاج لنضال طويل جزء منه عمل المؤسسات الحقوقية.
ورغم ذلك ، فقد برز نشاط مؤسسات حقوق الإنسان في العديد من القضايا وباتت محط اهتمام قطاعات واسعة من الجمهور والمهتمين ، سواء بالعمل العام أو عبر تلقيها سيلا من شكاوى المواطنين ، يزداد عددهم يوما بعد يوم. فضلا عن ذلك فإن مرجع الظن باهتمام هذه المؤسسات بالحقوق المدنية والسياسية فقط ، يرجع إلى أن هذه الحقوق تستحوذ على اهتمام الصحافة المستقلة والحزبية فتنشر عنها أكثر مما تنشر عن النشاط المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، رغم وجود نشاط حقوقي بارز في مجال الأخيرة ، مثل حقوق السكن والحقوق البيئية والحقوق العمالية وغيرها ، وجميع هذه الحقوق جزء من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وبالطبع فإن العديد من قضايا حقوق الإنسان تستدعي خطابا لا يحظى بجمهور واسع خاصة في ظل هذه النسبة المرتفعة من الأمية.
خامسا : حقوق الإنسان والقيم الدينية و الثقافية والاجتماعية.نشأ المجتمع المدني - وجزء منه حركة حقوق الإنسان - ليعوض الدور المفتقد للحكومات في تقديم الخدمات للمواطنين، أو للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم عندما يتم الافتئات عليها ، ومنظمات حقوق الإنسان مثلها مثل النقابات والأحزاب والجمعيات الخيرية جاءت لتلبي احتياجا إنساني وسياسي . فهي ليست بديلا عن الأديان ، كما أنها ليست في صراع معه. كما انه لمن القصور في النظر وضيق الرؤية التعامل مع حقوق الإنسان على أنها منتج خاص بثقافة واحدة كان يقال أنها "نتاج المجتمع الأوروبي أو الغربي" ، فلقد حاول البشر مبكرا جدا الاستجابة لما تتوق إليه نفوسهم الحرة وتنشده من قيم الحرية والعدل ومطالبهم في الأمان. فناقش الفلاسفة وبشر المبشرون وناضل المناضلون في سبيل الإنسانية. وتجلت هذه الجهود مؤخرا فيما نادت به الثورة الفرنسية فكانت مبادئ الحرية و المساواة و الإخاء لكل البشر بمثابة الأب الشرعي لما تلى ذلك من جهود لبلورة المفاهيم وتحديدها فيما عرف اصطلاحا بحقوق الإنسان ومن المغالطة أن يتم إغفال الإسهامات التي راكمتها الحضارات الإنسانية المتعاقبة للوصول إلى اللحظة الراهنة. وكما أن حقوق الإنسان هي قيم إنسانية تعني البشر جميعا ، فإن من المجحف أن ننظر إليها على أنها مؤامرة ضد الأديان . لأنها على العكس نشأت كتراث إنساني يدافع عن حق التدين وحرية الاعتقاد بغض النظر عن جنس ودين ولون ومكان الإنسان . ومن المؤكد أن ليس من دين أو عقيدة تختلف مع حقوق الإنسان حين ترفض التعذيب أو الحق في محاكمة عادلة أو الحفاظ على البيئة أو حق الإنسان في اختيار عقيدته أو أفكاره أو حرمة حياته الخاصة أو غيرها. وما يشاع عن التغريب والمؤامرة ، غالبا ما تأتي من تفسيرات متشددة لبعض رجال الدين ، وهناك فارق شاسع بين الدين وبين رجال الدين ، الذين يصورون الدين حسب خلفياتهم وحسب تفسيرهم هم. كما أن حقوق الإنسان لم تأتي بحقوق قد يراها البعض مثيرة للجدل مثل حقوق المرأة أو حرية الاعتقاد ، إلا وكانت هذه الحقوق نفسها مثار اختلاف وجدل بين الفقهاء أنفسهم ، بحيث يصعب وجود قيمة إنسانية تنادي بها حقوق الإنسان ، تناقض نصوص واضحة وهناك إجماع فقهي قانوني أو ديني حولها. وكما قلنا ان عالمية حقوق الإنسان ، ينفي عنها اختلافها أو تناقضها مع ثقافة بعينها أو دين محدد. كما أن حقوق الإنسان تتضمن بالأساس حرية الأديان والتدين إذ أن مبدأها الأسمى هو حرية الفكر والوجدان ، وكما تحمى حقوق الإنسان حرية الدين فإنها بالضرورة تحمى المواطن الإنسان من الاضطهاد أو الاستبعاد أو التمييز باسم الدين ، بل أن "حقوق الإنسان" تصون الدين إذ تجعله حكة السياسة. بمنأى عن مهاترات الفكر ومحاكمة الساسية