ولقد استمرت هذه الدولة الشامخة في جبين الدهر لما يقرب من 140 سنة ، منذ أن نشأت في عام 156 وحتى عام 296 للهجرة ، أي أكثر من عمر الدولة الأموية والدولة العباسية رصعت خلالها الكثير من الآيات والعبر ما يستحق أن يكتب بماء الذهب ويرصع به جبين الدهر .
وبالنسبة لما قدمته هذه الدولة للأمة الإسلامية من خدمة لها ، وإعلاء لراية الإسلام بتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى ، فإنه حري بالدول التي جاءت من بعدها والتي ستأتي أن تقتدي بها وبأئمتها الأجلاء .
وقد تولى الحكم في هذه الدولة أئمة عظماء أحيوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان أولهم المؤسس لهذه الدولة وهو الإمام الجليل عبد الرحمن بن رستم رحمه الله كما أسلفنا ، ثم تولى من بعده إبنه الإمام عبد الوهاب رحمه الله ، ولم يبايع بالإمامة لكونه إبنا للإمام السابق كما يظن البعض ، فإن المقياس عند الإباضية هو التقوى وليس النسب ، ولما توافرت في الإمام عبد الوهاب المواصفات التي تأهله لهذا المنصب الخطير لم يتأخر العلماء من أهل الحل والعقد في مبايعته .
ومن أئمة هذه الدولة الإمام أفلح بن الإمام عبد الوهاب رحمهما الله ، وغيره من الأئمة العدول ، وكان آخر أئمة هذه الدولة هو الإمام اليقظان بن أبي اليقظان .
ولكن أصحاب القلوب المريضة ، والنفوس السقيمة ، لم يقر لهم قرار وهم يرون هذه الدولة الشامخة فوق ذرى السحاب ، تعيش في أمن وسلام مع أهلها من مختلف المذاهب ، وتحقق الانتصارات تلو الانتصارات ، ولم يستطيعوا تحمل الحسد والحقد المشتعل في صدورهم من رؤية الدولة الرستمية يقصدها الوراد من كل حدب وصوب ، ليعيشوا فيها تحت ظل الأئمة الإباضية المطبقين لشرع الله ، فانفجرت نفوسهم بكل ما حوته من سموم ، وراحوا يحرقون كل ما وجدوه في طريقهم ، ويبيدون الأخضر واليابس ، فلم يسلم منهم لا الأطفال الرضع ،ولا النساء الرتع ، ولا الشيوخ الركع.
بعد أن استمرت هذه الدولة الإسلامية لما يقارب من 140 عاما ، جسدت فيها معنى الدولة الإسلامية على حقيقتها ، وأحيت سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، وسيرة صحابته الكرام رضوان الله عليهم .
ولكن شاءت مشيئة الله تعالى أن لا تستمر هذه الدولة لحكمة عنده ، فهجم عليها من انفجر قلبه بالحقد والحسد والغيض على هذه الدولة العادلة التي عاش تحت كنفها أصحاب مختلف المذاهب أحرارا يمارسون عبادتهم بكل حرية في مساجدهم الخاصة ، فأي عدل بعد هذا العدل ، وأي إنصاف بعد هذا الإنصاف .
هجم عليها المسمى أبو عبدالله الشيعي داعية الفاطميين ، فعاث فيها فسادا ، وقتل ، وشرد ، وانتهك الأعراض ، ولم يراعي في أهلها إلا ولا ذمة ، ولم يراعي فيهم أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , فقتل منهم من قتل وأسر من أسر وتشرد الباقون في الصحاري والجبال . والله المستعان على ذلك وعند الله تجتمع الخصوم .
ولم يكتف بذلك ، بل صب جام حقده الأسود على ما خلفته هذه الثلة المؤمنة من تراث ، فقام بإحراق مكتبة المعصومة ، مكتبة الدولة الرستمية ، بعد أن سرق ما فيها من الكتب الرياضية والصناعية والفنية ، وأحرق الباقي وقضى بذلك على تراث عظيم ، كان سيعود بالفائدة العظيمة على أبناء هذه الأمة .
ولا نقول إلا إن لله وإن إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .
وهنا سؤالا يطرح نفسه ، ويحتاج إلى إجابة منصفة له من منصف ، والسؤال هو :
هل هناك فرق بين ما قام به هذا المجرم المحسوب على هذه الأمة من قضاء للدولة الرستمية ، هذه الدولة العادلة التي آوت من هم على نحلته وأنصفتهم وحفظة حقوقهم ، وما قام به من إحراق لمكتبتها المعصومة ، وما قام به التتار من القضاء على الدولة العباسية وإحراق مكتبتها دار الحكمة ، مع الأخذ بعين الاعتبار البون الشاسع والفرق الواسع بين الدولة الرستمية والدولة العباسية !!!!!!!!!!
المصادروالمراجع :
1-مختصر تاريخ الاباضية ، الباروني ، ص34 -49 ، مكتبة الضامري - سلطنة عمان .
2- منهج الدعوة عند الاباضية ، د- محمد ناصر ، ص149-156 ، مكتبة الاستقامة - سلطنة عمان .
3-كتاب السير ،ج1 ، ص124-126 ، الشماخي ، وزارة التراث القومي والثقافة - سلطنة عمان .
4- طبقات المشائخ بالمغرب ، ج1 ، ص12-46 ، الدرجيني .
5- الدولة الرستمية ، إبراهيم بحاز ، نشر جمعية التراث ، الجزائر 1988م .
6-أخبار الأئمة الرستميين ، ابن الصغير ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت 1986م .