نبذ التحزّب والفصائل:
لم تسمح جبهة التحرير الوطني لأي حزب أو تشكيل سياسي بالانضمام إلى جبهة النضال، بل كان شرطها أن يدمج فيها و يذوب بالكامل بداخل الشعب الصامد.
و ما كانت الحزبيات إلا لتفرّق شمل الأمة و تمزّق جامعتها و تبدّد جهودها، فمن شأن التعدد أن يبذر التحاسد و التباغض في نفوس الناس تجاه الحزب الآخر، و أن يشتدّ كلما وجدت بينهم أهداف مشتركة، لأن كل فريق يريد أن يستحوذ على الهدف وحده دون الآخرين، و إن وصلوا معه لزمه أن يكون هو الرّاعي له، و إلا فالحرب بينهم أشدّ مما كانت مع عدوهم المشترك، و أقلّ ما يقال عن ضرر الحزبيات ساعة الجهاد أنّها تؤخّر سيره إن لم تعدمه، و لن يُجنى من التمزّق إلا أن يكونوا لقمة سائغة في فم العدو، و لا يزال الناس إلى اليوم لم يعتبروا بهذه العبرة، فلا يزال هذا السمّ المبثوث بينهم قصدا يسري في أوصالهم، و يعظّمون حرمة التعددية الحزبية كحرمة بيتهم باسم الحرية و الديموقراطية ، و هم يقرؤون في كتاب ربّهم قول الله تعالى:" {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} و هذا التفرّق و التشرذم و التناحر بين الفصائل المنفصلة و القطائع المنقطعة ما يجعل اليوم دولة بني صهيون تنام قريرة العين نسبيا و هي تعلم أنّ كلّ من يهدّد راحة بالها لا يزال منشغلا بنفسه و لم يرتّب بيته!!
و من بديع ما أنشده أمير شعراء الجزائر محمد العيد آل الخليفة في قصيدة كانت من إرهاصات الثورة المسلّحة:
و داوِ الميول بهدي الرّسول **** فقد مسّها طائف الطائفيّه
ذئاب الشّقاق عوت في البلاد **** فأين الرّعاة لحفظ الرعيّه ؟
أنزْعُمُ أنّا من المسلميــن **** و فينا بقايا من الجاهليـه ؟
عتبتُ و لكن عتاب الوداد **** و ألمعتُ لكن لذي الألمعيّه
لا محاباة مع الموالف ولا هوادة مع المخالف:
قد أذاعوا صوتا واحدا و هو لا مفاوضات مع العدو إلا بعد الاستقلال، و لا للوصاية الخارجية التي من شأنها أن تضعف قوّتها الداخليّة، و لم تحابي في ذلك حتى المساندين لها، فقد اضطرت جبهة التحرير أن تغلق مكتبها في القاهرة احتجاجا على التدخل المصري في قضاياها الداخلية رغم ما أمدّته إياها من دعم عسكري و سياسي و غيره.
و حاصل الكلام أن ترتيب البيت هو من شأن أهل البيت، فإنه حين تكثر الأيادي تنتهز اليد الآثمة لتطعن النضال من وراءه على حين غرّة و لن يهنأ البلد أمن و لا استقرار، و ما عنكم خبر لبنان ببعيد!!
ربّات الحجال في ميادين النضال:
لقد كانت المرأة وسيلة مستهدفة عند الاستعمار، و ذلك بتغريبها لتكون يدا آثمة بيده، فهو يعلم أن ما تفعله غانية بسلب العقول لا تفعله مفاوضات و لا دبابات، و لكن المرأة الجزائرية التي شربت مبادئ الإسلام و أحبّت الوطن قد نشزت عن تعاليم فرنسا، و هذا ما قاله المؤرّخ النحرير، أبو القاسم سعد الله:".. فإنّ هذه المعجزة تتجلّى أكثر و أكثر عندما نجد الثورة الجزائرية قد استطاعت أن تجعل من المرأة العربية أداة صالحة لخدمة القضية و سلاحا قويا من أسلحة الثورة.. ففي المعركة اليوم مئات المجنّدات يعملن ممرّضات و مسعفات و حارسات و يحملن السلاح و يقمن بالأعمال الفدائية الخارقة مما جعل الاستعمار الفرنسي يضيق درعا بهن فيحكم بالاعدام على البعض و بالسجن على الأخريات..
و لعل قصة جميلة بوعزة و زميلاتها البطولية لم تغب عن أذهاننا. و إلى جانب ذلك تقوم المرأة العربية بالجزائر بدور خطير و هو رفع الروح المعنوية لجيش التحرير و يكفي أن تعلموا بهذا الصدد أنّ المرأة قد أصبحت ترفض الزواج ممن لم يجاهد أو يحمل السلاح و تحتقر الذين لم يعملوا في صفوف الثورة."
و ممّا قاله محمد العيد، كُميت الطائفة الناجية، كما لقبّته جمعية العلماء المسلمين آنذاك، و هو يتكلّم بلسان حال بنت الجزائر:
و اتّخذنا من الرّصاص عُقُودا **** و انتطقنا به على الأكبادِ
و اعتقلنا رشّاشنا ساهراتٍ **** شاهراتٍ له على استعداد
و قدحنا زنادنا فقهرنا **** و بهرنا العدا بقدح الزّناد
فإذا جنسنا اللطيف عنيفٌ **** و شريف في ساحة الأمجاد
أنا ثورية سلامًا و حربًا **** فكرتي عدّتي و علميَ جهادي
و عفافي درعي و صبري دفاعي **** و صلاحي حصني و ديني عمادي
أنا بنت الجزائر اليوم أقضي **** حقّ أمّي لخدمتي و اجتهادي
فهذه بضع بصائر أملتها قريحة مستعجلة، و لو رحنا نستقصي تاريخنا الإسلامي كلّه و نسبر حِكمه و عبره لتيقّنت النفوس العزيزة و استبصرت بما يجري في واقعها و أنّه لا حاجة لها كي تفكّر أو تجرّب مجدّدا، فقد كُفيت من قبل، و لو مدّت يدها إلى الوراء لوجدت التاريخ يمدّها بمنائر يدلّها على طريقها القائد لها إلى العزّ في الدنيا و الآخرة.
لكِنّا اليوم في العالم الإسلامي نعاني من استعمار روحي، يتمثّل في التبعية الاقتصادية و الغزو الفكري و الضغوط السياسية، ما تسبّب لنا في "احتباس حضاري"، لا زلنا لم ندرك خطورته بعد، بل و نحن اليوم مضربٌ للحمق و السفاهة، فأمّة تملك كل مقوّمات بناء الحضارة و لا حضارة تجمعها فباطن الأرض خير لها من ظهرها، و ما يفعل أعداؤنا اليوم إلا التصبّر للزمن، ينتظرون ساعة يؤذن لهم بالاستعمار الجسدي لينزلوا إلينا من جديد و يجعلونا عبيدا عندهم في أراضينا، و لن يجدوا من يردعهم إذا كانت الدّيار قد أُفسد شبابها و أُشيع بينهم الانحلال الخُلقي و التخلف العقدي، و ما فرنسا و أمريكا و بريطانيا و غيرهنّ إلاّ ضرائر لا تعفّف لهن إلا في منح الشعوب المستضعفة حرّياتها، و لا غيرة بينهنّ إلاّ فيمن تسبق لتصيب مقاتلنا.
واقرأ للعلاّمة الابراهيمي و هو يكتب عن الاستعمار الجديد قبل نصف قرن:"أفكلّما رثّ حبل الاستعمار، و تصدّع جداره، و أشرف على الفناء في حربين ماضيتين –جاءت أمريكا حاضنة الديموقراطية، تكفكف دموعه، و تنظّم جموعه، و ترمّم جداره، و تعمّر بالدولار داره ؟
إنّ الأمم الضعيفة قد لدغت من جحره مرتين، فاحذروا الثالثة، و قد أصبحت هذه الأمم تلقّب أمريكا بلقب لا يشرفها، و هو أنها (نصيرة الاستعمار).
الاستعمار عمل أوله ختل، و آخره قتل، وشرّ لا بقاء عليه، ثم لا بقاء له، ووحش مروّض آخر صرعاه رائضه، و مرض آكل يأتي على المكاسب، و يثني بالمواهب، و مخلوق لئيم، يدان و لا يفي، و ينتقم و لا يشتفي، و يستأصل و لا يكتفي، و يجاهر بالسوأى و لا يختفي، و كنود، و أوْلى الأيدي عنده بالقطع يد مدّت بإحسان إليه".