روحانية الثورة:
فُجّرت الثورة على أنها روحانية في جوهرها و مبادئها بحسب الحال و الزمان، و قد جاءت عبارة :"ضمن إطار المبادئ الإسلامية" في طليعة أهداف الدولة المنشودة، فكانت الثورة بلا جدال كالسيل الجارف، أرغمت كل من في طريقها أن يكون منها، مدفوعة برايات الله أكبر و شعائر الجهاد، و لم يكن لها فلسفة أو ميثاق يضعه واحد من البشر عدا ما جاء في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلّم، و كثيرا ما كانت تتردّد عبارت الجهاد في البيانات و الخطابات الرسمية الناطقة عن جيش التحرير، و أما كلمة السر فنابعة من صميم أفئدة أئمة الجهاد، فكلمة السر بين المجاهدين كانت "خالد" و جوابها "عقبة".
و مسألة روحانية الثورة و بقاؤها على النهج الذي بدأت به، كانت و لا زالت موضع خلاف بين المناضلين ساعتها و بين المؤرخين تبعا، فهناك من رأى أنّ مؤتمر الصومام قرّر انحراف الثورة عن مسارها، و منهم من رأى الانحراف بعد الاستقلال كالعلامة المجاهد محمد البشير الابراهيمي، فقد رحل عن الدنيا و هو غير راض عن الختام، إذْ لم يرهُ مسكا، و تفرّس بوقوع حرب أهلية تعصف بالبلد، و قد وقعت بعد ثلاثين سنة من خطبته المشهودة تلك. و بسْط هذه المسألة يطول و يلزمه المادة التاريخية لنتصوّرها تصويرا دقيقا حتى يكون الحكم سديدا، و من باب الإنصاف أن أذكر حجّة ذكرها بعض المؤرخين لقوتها، و هي أنّ الثورة كانت تخاطب الرأي العام الغربي بمبادئ المطالبة بالحقوق الشرعية لكل صاحب حقّ، و حتى لا يتّهم الثوار بأنهم سوى 'متعصبين دينيين'، و أما مع الشعب فقد خاطبتهم بلسان حالها جريدة 'المجاهد' سليلة العلم و النضال.
قلت: و يجوز العدول عن مخاطبة أهل الملل الأخرى في العهود و المواثيق بما ينكرونه علينا بالباطل، و لا يمنع هذا من أن يكون جهادنا لأجل دين الله، و دليله ما وقع في صلح الحديبية حين عدل النبي صلى الله عليه و سلّم عن كتابة "بسم الله الرحمان الرحيم" إلى "باسمك اللهم"، و كذا عن كتابة "محمد رسول الله" إلى "محمد بن عبد الله"، و في هذا فقه ينبغي التفطن له حتى لا ترمى الثورات بالانحراف جزافا.
القيادة المحنّكة الرزينة:
إنّ زمرة الشباب التي فجّرت الثورة كانت حَصَانا عن الحمق، رزانا عن التهوّر، و لا يعرف اليأس إلى قلوبهم سبيلا، فقد حسبت خطواتها و أعدّت العدّة كما ينبغي له مثل هذا الأمر الجلل، و يقول العلامة أحمد شاكر في وصفهم :"و هم رجال يعملون و لا يدّعون، و لا يتظاهرون و لا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو سلطان لهم لم ترضه بلادهم و شعوبهم، و هم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم.."، و قد تلقّوا الكثير من معالم القيادة من حركة الإصلاح التي بثّها العلامة عبد الحميد بن باديس في المجتمع، فنجده يقول في القيادة التي لا تتحكم فيها الأثرة الشخصية:"عندما تكمل في القاعدة أخلاق الرجولة، و يتّحدون في الإيمان بالمصلحة المشتركة، و في السعي لغاية واحدة، لا يحول بينهم و بين القيام بجلائل أعمالهم و البلوغ إلى غاياتهم ما تقلّ السلامة منه بين البشر من الحزازات الشخصية."
و بالرغم من فتوتهم، و نأي أسمائهم عن الشهرة، إلا أنهم كانوا أهلا لتفجير الثورة بحكم عدّة أسباب منها:
1) أنَّهم نبعوا من الشعب و عرفوه في مدنه و قراه و أريافه.
2) ساهموا في صنع الكثير من الأحداث منذ عام 1945، غير أنّ أيديهم لم تظهر و لم يسمع لهم حسّا حتى فجّروا الثورة.
3)تكوّنوا في المنظمة الخاصة العسكرية.
4) مارسوا التعامل الاستعمار و مناوراته.
5) درسوا في عدّة مناسبات أسباب فشل الانتفاضة و المقاومة في الماضي.
النفير الكامل:
سئل المجاهد الكبير الفضيل الورتلاني عن حقيقة الثوار في الجزائر و عن عددهم فقال:"نعم يستطيع جميع أهل الأرض أن يعرفوا من هم الثوار في الجزائر حقيقة، بل تستطيع أنت أن تلقاهم بأشخاصهم، وأن تراهم بأم عينك، و أن تتحدث إليهم و يتحدثوا إليك، و السر أو السبب البسيط جدا، ذلك لأن الثوار في الحقيقة هم جميع أبناء الأمة من رجال و نساء، و كبار و صغار، و أغنياء و فقراء، و علماء و صعاليك، و لا شيء من المبالغة في هذا مطلقا..".
هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن تدرك اليوم أن الثورة الجزائرية كان بطلها هو الشعب كلّه و لم يعرف لها رجل رمز كباقي الثورات، و أنه قد نفر بكل طبقاته و انخرط فيها، فمن لم يكن مقاتلا كان عينا على الأعداء، و من لم يكن كذلك كان معينا للمجاهدين بالمعونة و الحماية، و كل كان له يد في تحرير البلاد، و هذه حقيقة لا تنكر، و منه فلا معنى لما نراه اليوم لمنظمات المجاهدين و أبناء المجاهدين و أبناء الشهداء و أصهار المجاهدين و جيران المجاهدين، فكل ذلك من باب أكل أموال البلاد بالباطل، فمن جاهد إنما يجاهد لله، و كل الشعب انضوى تحت لواء الجهاد إلا فئام من الناس أبت إلا الولاء لفرنسا التي أدركت هذه الحقيقة، فعملت على عزل الثورة عن الشعب، حتى تذبل و تموت، و زعيمها في ذلك مثل يشبّه الثورة بالحوت و الشعب بالماء الذي يحويه، و من أراد أن يفني الحوت فعليه أن يُغِيرَ على الماء إلى أن يهلك الحوت، و من ثمّ ركنت فرنسا إلى الإبادات الجماعية و التقتيل الوحشي، ضاربة بكل مبادئ الإنسانية التي تتزعمها في المحافل.
زد على ذلك أن كلمة الشعب كانت هي كلمة جبهة التحرير، فكل تعددية أُجلّت إلى ما بعد الاستقلال، و ذلك حتى لا تقوم القطيعة، ففريق يجاهد، و فريق يهادن، و فريق يوالي، و كل ذلك من الشرّ الكبير.