محكمة الجنائية الدولية والحالات القانونية التى تحول دون تدخلها
فى الشؤن الداخلية للدول
الناظر والمستقرئ لتاريخ البشرية يجد أن هذا التاريخ كثيرا ما تم تلطيخه بجرائم وحشية وانتهاكات خطيرة, يعجز عنها الوصف
تماما, وذلك إذا أخذنا في عين الاعتبار الجرائم التي وقعت أبان الحرب العالمية الأولى والثانية تلك الجرائم التي ارتكبها النازي الالمانى أدولف هتلر، والجرائم التي ارتكبها الديكتاتور الايطالى, موسيلينى, والجرائم التي ارتكبت في البوسنة والهرسك, ويوغسلافيا السابقة,
والجرائم التي ارتكبها طاغية العراق، والذي اعف لساني من ذكر اسمه, ذلك الطاغية الذي ارتكب جرائم لا توصف في حق الشعب
العراقي الصابر, وفى العام 1994 م, وقعت مذابح خطيرة ضد البشرية في رواندا تلك المذابح التي هزت الضمير الانسانى بقوة, حيث أدت
المذبحة, اى مذبحة رو ندا إلى مصرع أكثر من مليون ونصف المليون شخص, فضلا عن المشردين قسريا, والمعوقين, وغيرها من الانتهاكات، والتي لا يسع المجال هنا لذكرها.
وفى ظل صمت دولي رهيب ومريب, ومخزي, واثر تمرد حقير أطل برأسه في إقليم دار فور, وقعت أكبر محنة ومعاناة إنسانية على مستوى العالم في الوقت الراهن, حيث وقعت انتهاكات خطيرة ضد القانون الدولي. تلك الانتهاكات والجرائم جعلت البشرية تكتم أنفاسهالفترات طويلة من هول الفظا عات التي وقعت ضد المدنين في الإقليم, تلك الجرائم التي أجبرت إبليس اللعين, أن يقف متحيرا مندهشا مستغربا، وغير مصدقا للأفعال التي قام به بنى البشر ضد ابن جلدته في إقليم دار فور، وبالفعل في بعض الأحيان بل في كثير من الأحيان يتعلم الشيطان الرجيم من البشر. كثير من فنون ارتكاب الجرائم الخطيرة، يقول من خلق السماء بغير عمد نراها ( ... فاتبعه الشيطان فأصبح من الغاوين ) اى أن الشيطان أصبح تابعا لبنى البشر لكي يتعلم منه الخبرات التي تعينه في ارتكاب الجرائم الخطيرة.
كما أن الناظر لكل الذين تسببوا في تلك الجرائم الخطيرة ضد البشرية, كانت نهايتهم سيئة للغاية, حيث منى أدولف هتلر، وموسيلينى, بهزائم نكراء، حيث قتل الأول نفسه منتحرا، أما الثاني فكان يشعر بعظمة, حاله حال كل ناعق يقوده الافتراء إلى نهاية مأساوية, حيث تم القبض عليه وزج به فى مزبلة التاريخ، أما طاغية العراق فقد كان يحاول الهرب من العدالة الجنائية الوطنية، بل كان يتطلع الى الإفلات من العقاب, ولكن خاب ظنه اثر دعوات الضحايا ومحبي العدالة، حيث تم إلقاء القبض عليه وهو مختبئا تحت الأرض ، وكانت نهايته مأساوية ، حيث تم شنقه بالحبال ،وزج به إلى الدرك الأسفل من النار،خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، فليتعظ محترفي القتل وأئمة الاستكبار .
تلكم الجرائم التي وقعت على مر التاريخ الانسانى، وقفت الآلة السياسية حيالها عاجزة تماماعن إيجاد حل لها لذا كان لابد من إيجاد آلية دولية جنائية, يردع من خلالها المجتمع الدولي مرتكبي الجرائم ويقلل من ارتكاب تلك الجرائم ضد البشرية في المستقبل, فكان لابد من ميلاد المحكمة الجنائية الدولية في يوليو من العام 1998 م في روما بايطاليا. حيث انتظر البشرية ومحبي السلام على مستوى العالم ميلاد هذا الطفل الشرعي لكي ينقذ البشرية من الأسى والمحن. إن الموضوع الذي أود التطرق إليه بعد هذه المقدمة, وكما هو موضح في العنوان أعلاه، لصيق الصلة بالجدل الذي مازال قائما حول المحكمة الجنائية الدولية من جهة والحكومة السودانية من جهة أخرى. في بداية الأمر, إن المحكمة الجنائية الدولية, وكما جاء في نظام روما 1998 م دورها تكميلي, وليس اساسى, وقد حرص واضعي النظام (نظام روما 1998 م) على مسألة السيادة الوطنية للدول بصورة عامة. حيث نص على ذلك في الفقرة العاشرة من الديباجة والتى جاء فيها : (( وإذ تؤكد , اى الدول الأطراف في هذا النظام ، أن المحكمة الجنائية الدولية والمنشأة بموجب هذا النظام الاساسى ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية )). إذا نخلص من ذلك أن القاعدة العامة للمحكمة الجنائية الدولية تقول أن الدور الاساسى, هو القضاء الوطني, ولكن يجب أن يعلم الجميع أن هناك حالات تنتفي فيها دور القضاء الوطني, وينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية فى حال وقعت
جرائم تختص بها المحكمة وذلك مثل جرائم الابادة الجماعية, وجرائم الحرب الجرائم ضد الإنسانية وينعقد الاختصاص للمحكمة
إذا كانت الدولة صاحبت الشأن غير راغبة او غير قادرة كما هو الحال فى القضايا المعروضة الان أمام المحكمة الجنائية والتي تخص كل من دول أفريقيا الوسطي وأوغندا, والكنغو الديمقراطية حيث ان تلك الدول غير قادة على محاكمة المجرمين الذين ارتكبوا جرائم تختص بها المحكمة الجنائية لذا أحالوا الأمر إلى العدالة الجنائية والمتمثلة في المحكمة الجنائية الدولية. أما حالة السودان والمتمثل في إقليم دارفور فان المحكمة الجنائية اختصت بالنظر فيها لأسباب موضوعية هي على هذا النحو: أولا:
ذكرت اللجنة الدولية لتقصى الحقائق حول مزاعم الابادة الجماعية فى الإقليم والتي شكلت فى العام 2004 م وكانت اللجنة برئاسة
السكرتير السابق للأمم المتحدة السيد /كوفي انان حيث أوصت اللجنة بضرورة إحالة الأزمة الى المحكمة الجنائية الدولية، والسبب فى ذلك يرجع حسب ما جاء فى التقرير ان الحكومة السودانية غير راغبة فى محاكمة المجرمين وفى نفس الوقت وللأسف الشديد ذكرت اللجنة ان القضاء الوطني السوداني غير قادر وذلك لتغول السلطة التنفيذية عليها مما حال دون محاكمة المجرمين والذين أصبحوا يتطلعون إلى
الإفلات من العقاب . ثانيا: إن المحكمة الجنائية الدولية مختصة لوقوع بعض الجرائم التي تدخل من ضمن الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية. وكنا نأمل ان يطلع القضاء الوطني السوداني بالتحقيق فى تلك الجرائم, وذلك لسد الطريق أمام المحكمة الجنائية الدولية، ومن المعلوم ان القضاء الوطني السوداني كان مشهود له وعلى مستوى العالم بالكفاءة، والنزاهة والاستقلالية ولكن لا أدرى
مالذى طرأ عليه في الآونة الأخيرة ؟ اذا أن الاختصاص ينعقد للمحكمة الجنائية الدولية اذا تبين لها إن السلطات الوطنية غير راغبة أو غير قادرة على القيام بعمليات التحقيق فى جرائم تختص بها المحكمة الجنائية الدولية. ومن الجدير بالذكر ان عبارة غير قادرة unable, وغير راغبة unwilling, أثارت جدلا واسعا بين وفود الدول في المؤتمر الدبلوماسي الأول للمحكمة الجنائية الدولية فى العام 1998 م بروما حيث اعتقد الكثير من وفود الدول أن عبارة غير قادرة unable, أو غير راغبة unwilling تحدان من اختصاص المحكمة الجنائية وكانوا يفضلون عبارة غير فعالة ineffective بدلا من عبارة غير قادر أو غير راغبة وبالتالي فلكي تتوصل المحكمة الجنائية الدولية أن
الدولة غير راغبة فيجب عليها اى على المحكمة الجنائية الدولية أن تحدد نية السلطات الوطنية فهل السلطات السودانية لا ترغب فى محاكمة المجرمين الذين ارتكبوا جرائم خطيرة في حق المدنيين في إقليم دارفور ؟ أما عبارة غير قادرة فان هذه الكلمة تعنى أن الدولة تصبح غير قادرة اذا انهار النظام القضائي انهيارا كليا كما في حالة دولة الصومال الفاشلة والمنهارة أو أن ينهار السلطة القضائية انهيارا جزئيا والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هل انهار القضاء الوطني السوداني انهيارا كاملا او جزئيا ؟ وبصورة عامة فان روح او ممضون النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية تحرص دائما على ان يطلع القضاء الوطني في الدول بدور اساسى في التصدي للجرائم الخطيرة
التي ترتكب على أرضيها وفى حال أن عجزت السلطات الوطنية أو إذا لم تكن لديها الرغبة فان الاختصاص بدون أدنى شك ينعقد للمحكمة الجنائية الدولية وهو ما يتحقق به الدور التكميلي للقضاء الوطني للدول وهذا هو موضع الخلاف مابين المحاكم الخاصة ليوغسلافيا السابقة ورو ندا 1994 م حيث ان تلك المحاكم الخاصة لها صلة وثيقة مع المحاكم الوطنية لتك الدول . وذلك بخلاف المحكمة الجنائية الدولية. وباستقراء المادة (17) من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية والتي تتعلق بقبول أو عدم قبول الدعوى, حيث انه من المؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية سوف ترفض النظر فى اى دعوة جنائية جارى التحقيق او جرى التحقيق بشأنها, ونص على ذلك المادة (17) مع مراعاة الفقرة (10) من الديباجة أيضا المادة (1) من النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية تقرر أن الدعوى تصبح غير مقبولة امام المحكمة الجنائية الدولية فى إحدى الحالات الآتية:
1- إذا كانت الدولة صاحبت الشأن تجرى
تحقيقا حولها 2- إذا كان الشخص المعنى قد سبق وان حوكم 3- إذا لم تكن الجريمة على درجة عالية من الخطورة
تلكم هى الأسباب التي تحول دون تدخل المحكمة الجنائية الدولية في الشئون الداخلية للدول. إذا هذا هو ما يقوله النظام او القانون
الدولي, والمتمثل فى نظام روما الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية وليقل أهل السياسة ما شأوا ا لا أننا فى النهاية وفى البداية نستند الى قواعد قانونية علمية ثابتة اما أهل السياسة فهم لا يستندون إلى اى قواعد علمية وإنما يعبرون عن رغباتهم فقط. وهنا يحضرني مقولة الأستاذ الكبير مكرم عبيد باشا حيث قال: العدالة والسياسة ضدان لا يجتمعا, وإذا اجتمعا لا يتمازجان و في الواقع أنهما مختلفان في الطبيعة
والوسيلة والغرض فالعدالة من روح الله ، والسياسة من صنع البشر والشيطان والعدالة تزن الأمور بالقسطاس بينما السياسة هي من الرغبات والاعتبارات الغيرعلمية ...الخ.
لذا فان الضحايا من إقليم دار فور يتطلعون إلى العدالة ولم ولن يغمض لهم جفن مالم يقدم المجرمون إلى العدالة. تلكم هي المبادىء والقواعد القانونية العلمية التي ندعوا لها وذلك بعيدا عن الاعتبارات السياسية ومن هذا المنطلق ندعوكم لتتفهموا ما نصبوا إليه لعلكم تفلحون
منقول للامانة