قيام الحكم العثماني في الجزائر
خضعت الجزائر منذ العقد الثاني من القرن السادس عشر الميلادي /العاشر الهجري جزئيا ثم كليا إلى الحكم العثماني واستمر ذلك إلى سنة 1830 م تاريخ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر. ولكن كيف كانت بداية الوجود العثماني؟ و ما هي الأطوار التي مر بها حكم العثمانيين للجزائر؟
3-1 بداية الوجود العثماني في الجزائر
لما كان الإسبان يغزون الشواطئ الجزائرية في مطلع القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي ، كانت طلائع غزاة البحر العثمانيين، ممثلة في الأخوة بربروس (1)عروج و خير الدين و إسحاق، و في آخرين ،قد وصلوا إلى الحوض الغربي للمتوسط، و أخذت تجوب عرضه جيئة و ذهابا، ملحقين بالسفن و الشواطئ المسيحية خسائر كبيرة ، متخذا من الموانئ التونسية التي أذن لهم السلطان الحفصي أبو عبد الله محمد، باستعمالها مقابل دفع الخمس من الغنائم و شروط أخرى)2(، منطلقا لها ،فذاع صيتهم، و انتشرت أخبار بطولاتهم في الغزو البحري، فتوجهت إليهم أنظار المجاهدين الجزائريين، و في مقدمتهم أبو العباس أحمد بن القاضي الزواوي الذي لما رأى قوة شوكة النصارى الكفار، و انتشار في المغرب، و ضعف المسلمون عن مقاومتهم، كاتب الترك، و عرفهم عزة هذه البلاد، لما يسمع من شدة الأتراك في المعارك، و نجدتهم في الحروب و المضايق ، وإرهابهم للكفرة فقصد بحسن نية، أن يرفعوا من عزة الإسلام ما انخفض،و يقووا من أمره ما ضعف، و قال : إن بلادنا بقيت لك ولأخيك أو للذئب ، فأقبل الترك نحوه مسرعين، و جعل هو يخص الناس على اتباعهم، و الانخراط في سلكهم ،و السمع و الطاعة لأميرهم عروج التركماني، الذي هو الباي فيهم ،فدخل الترك الجزائر و تلمسان.
و من هذا النص يستخلص أن تدخل أوائل العثمانيين في الجزائر، كان استجابة لطلب الجزائريين، ونجدة لهم، و مشاركة في الدفاع عن بلادهم، و تحرير ما وقع منها تحت الاحتلال الإسباني. و لكن عروج و جماعته من الأتراك، وغيرهم قبل أن يدخلوا إلى الجزائر أو إلى تلمسان، قاموا في سنة 918 /1512م بمحاولة لتحرير بجاية، لم تكلل بالنجاح، و فيها فقد عروج ذراعه. و لما شفي من إصابته و جدد بناء قوته خلال سنة 919/1513م، هاجم في السنة التالية )920/1514م( بجاية مرة أخرى، و لما باءت محاولته بالفشل، توجه الى بلدة جيجل، التي استولى عليها الجنويون بقيادة أندرى دوريا في سنة 919/1513م، لتحريرها بالتعاون مع أهاليها و سكان المنطقة المجاورة لها و ابن القاضي المذكور. و قد تمكن عروج من القضاء على حصن الجنويون، و تحرير البلدة التي أصبحت منذ ئد قاعدة له. و منها وجه هدية ثمينة إلى السلطان العثماني سليم الأول . وبذلك ابتدأت الصلة الرسمية مع العثمانين، و النفوذ العثماني في الجزائر .
3-2 توسع نفوذ العثمانيين
شرع عروج و خير الدين ثم من تلاهما في توسيع نفوذ العثمانيين في الجزائر انطلاقا من جيجل أول حاضرة لهم في الجزائر ، ثم من مدينة الجزائر ثاني المدن التي خضعت لهم. فعروج لم يلبث في جيجل مدة طويلة حيث تلقى دعوة من أهالي مدينة الجزائر، و أميرهم سالم التومي في سنة 922ه/1516م لتخليصهم من الحامية الإسبانية، التي كانت تضايقهم ،وتشل حركتهم، وتحول دون ممارستهم للغزو البحري ،فاستجاب لطلبهم، و هاجم الحصن الإسباني، بعد أن استولى على بلدة شرشال المجاورة، و لكن مدفعيته لم تستطع التأثير على الحصن القوى على أنه لم يكن يبعد عن المدينة بأكثر من 100م، و أنه ظل يقصفه ثلاثة أسابيع.
ولكن العلاقة بينه و بين سالم التومي لم تلبث أن ساءت بعد فشل هذا الأخير في القضاء على الحصن الإسباني. و تمكن عروج من قتله بعد أن استمال اليه العديد من أعيان المدينة بالهدايا و أعلن نفسه حاكما على الجزائر ثم تمكن من إحباط مؤامرة حاكها ضده بعض أهالي المدينة مع عرب المنطقة المجاورة (عرب متيجة، الموالين لسالم التومي) فأذعن سكانها. ولكن الإسبان لم يرتاحوا إلى الوضع الجديد في المدينة، فجهزوا حملة ضخمة في نفس السنة 922ه/1516 م للقضاء على خطر عروج قبل استفحاله، و إعادة الإمارة إلى ابن سالم التومي، كانت تتألف من 8000 مقابل نقلتهم 80 سفينة، بقيادة دييجو دوفيرا، ولكن تلك الحماة باءت بالفشل أمام خطط عروج الهجومية، التي مكنته من القضاء على 3000 ممن نزلوا إلى الأرض ، وأسر 400 منهم. و تضافرت العاصفة معه، فقضت على معظم قطع الأسطول بمن فيها غرقا في البحر.
وساعد هذا الانتصار الباهر الذي حققه عروج و جماعته ، بالتعاون أيضا مع سكان المدينة و عرب المنطقة المجاورة، على استقرار الأمر لحاكم الجزائر الجديد، و على مد نفوذه إلى مدن أخرى، ساحلية و داخلية، في مقاطعة الجزائر و خارجها، كدلس، و المدية، و مليانة، و غيرها. ثم توجهت أنظاره إلى الغرب الجزائري للقضاء على الحكام الزيانيين فيه، الموالين للإسبان، كسلطان تنس و سلطان تلمسان.
و قد تمكن من الانتصار على قوات سلطان تنس الكبيرة ، في المعركة التي جرت بين الطرفين على مقربة من نهر الشلف، في صيف 923/1517م و ذلك بفضل السلاح الناري الذي كان بحوزة قواته،و الذي لا مثيل له لدى قوات سلطان تنس، فاضطر هذا الأخير إلى الفرار إلى قاعدة ملكه. و لما وجد نفسه ملاحقا فر منها إلى أقصى الجنوب الجزائري، فدخلها عروج ثم تقدم إلي تلمسان، حيث كان السلطان أبو حمو الزياني الثالث الموالي للإسبان قد اغتصب الملك من ابن أخيه أبي زيان وأودعه السجن، و ذلك بعد أن تلقى دعوة من بعض أعيان تلمسان يرجونه فيها المسير إلى مدينتهم لتخليصهم من أبي حمو ، و إعادة أبي زيان الى الملك و تمكن عروج من تحقيق النصر على ابي حمو في المعركة التي دارت بين الطرفين، ففر هذا الأخير إلي فاس ثم إلى وهران، و من هذه الأخيرة توجه الى بلاط ملك إسبانيا شارل الأول، لطلب عونه. و دخل عروج تلمسان في رمضان 923 / سبتمبر 1517م، و استحوذ على الملك فيها، و قتل أبازيان بعد أن أعاد له الملك بضعة أيام و كذلك كل أفراد الأسرة المالكة إلا من فر منهم ،و المتعاطفين معهم من التلمسانيين و ذلك حسما لمؤامراتهم ثم جد في توطيد سلطته في المدينة ، و تحصينها .و كان قد أقام و هو في طريقه إلى تلمسان ـ حامية في قلعة بني راشد، التي تتوسط الطريق بين تلمسان و مدينة الجزائر لتأمين خط الرجعة إلى هذه الأخيرة ووصول الإمدادات إليه منها أو من الجزائر أسند قيادة تلك الحامية إلى أخيه إسحاق.و سعى إلى إقامة تحالف دفاعي و هجومي بينه و بين سلطان فاس محمد البرتغالي الوطاسي ضد النصارى، العدو المشترك، فرحب هذا الأخير بالعرض ووافق عليه. و بهذه الخطوات اطمأن عروج، و بقي في مدينة تلمسان الداخلية.
3-3 التدخل الإسباني في تلمسان و القضاء على عروج
لم ينظر الإسبان بعين الارتياح إلى النجاحات التي حققها الإخوة بربروس و الخطوات الكبيرة التي خطوها في طريق توحيد أجزاء الجزائر تحت سلطتهم، لأن خطرهم المتزايد سوف لا يتوقف عند تهديد مراكزهم على ساحل المغرب الكبير و على شواطئ إسبانيا نفسها و لذلك فقد كان رد فعلهم التدخل السريع الى جانب السلطان المخلوع أبي حمو الثالث، فقطعوا أولا خط الرجعة إلى الجزائر، بقضائهم على حامية قلعة بني راشد بما في ذلك إسحاق شقيق عروج وخيرالدين، ثم حاصروا عروج في تلمسان. و كان هذا الأخير يأمل في وصول المدد إليه من حليفه السلطان الوطاسي، و لما طال انتظاره حاول الفرار في اتجاه الغرب مع القليل من الأتراك الذين بقوا و الإسبان أدركوا بعد معركة عنيفة من القضاء عليه و على رفاقه في ماي 1518 وفي بني يزناسن. و أعاد الإسبان الملك في تلمسان إلى أبي حمو الثالث الذي قبل أن يدفع ضريبة سنوية لهم مقدارها 12000 دوكاتو 12 من الخيل و 6 من إناث الصقور، كعلامة عن التبعية . وبمقتل عروج وأخيه إسحاق و القوات التي كانت معهما، تعرض الوجود العثماني إلى هزة قوية كادت تقضي عليه ، و تقلصت من جديد أرجاء الدولة التي أخد عروج في إنشائها بعودة ابي حمو إلى مملكة تلمسان و حميدة العبد إلى تنس .