صارت بغداد مسرحاً لمناظرات علمية حامية الوطيس بين أشهر علماء العصر.
أما الأدب، فقد تطور هو الآخر في العصر العباسي تطوراً كبيراً، ونهج الشعراء فيـه مناهج جديدة في المعاني والموضوعات والأساليب والأخيلة، وغير ذلك من فنون الشعر المختلفة التي تناسب ما انتشر في العصر العباسي من حضارة وترف ولا سيما في رصافة بغداد أو بغداد الشرقية. ومن أشهر هؤلاء الشعراء،، أبو نواس " الذي ذاعت قصائده في الخمر والغزل والصيد.. الخ، و" أبو تمام الطائي " المشهور بنزعته العقلية والفلسفية في الشعر، وتلميذه "أبو عبادة البحتري " صاحب المدائح الخالدة، و "ابن الرومي " المعروف بطول نفسه وغزارة شعره، و" أبو العتاهية" الذي اشتهر بالحكمة والغزل الرقيق، والمتنبي، الذي اشتهر بالفخر ، وأبو العلاء المعري، شاعر الحكمة، وغيرهم كثيرون. ويكفي أن نشير إلى ما قاله الخليفة الشاعر، "عبد الله بن المعتز (ت 296 هـ) " في كتابه "طبقات الشعراء" من أن عدد شعراء الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث الهجري فقط بلغ أكثر من مائة وثلاثين شاعراً. هذا إلى جانب الشاعرات والأديبات من النساء اللائى لعبن دوراً هاماً في الحياة الأدبية وفي الأحداث المهمة في المجتمع الإسلامي مثل "رابعة بنت إسماعيل العدوية" التي سلكت طريق الزهد والتصوف والأميرة، علية بنت المهدي " التي وصفها "الحصري " بأنها "تعدل الكثير من أفاضل الرجال في فضل العقل وحسن المقال، ولها شعر رائق وغناء رائع ". ومثل الأميرة "العباسة بنت المهدي " التي لعب الخيال دوراً كبيراً في القصص التي أحاطت بها، إذ تروى لها أشعار تدل على ذكاء وحسن تأت للموضوع الذي تقصد إليه. ومثل "عابدة الجهنية" التي قال "السيوطي " عنها أنها"أديبة شاعرة فصيحة فاضلة كاتبة".
هذا، ويروي "ابن الفوطي " أن الخليفة العباسي "الناصر لدين الله (ت 622 هـ) كانت لديه جارية تركية تسمى "شجرة الدر"، مقربة إليه، وكانت تكتب خطاً جيداً ، وتقرأ له المطالعات الواردة عليه لما تغير نظره، ويملي عليها الأجوبة. وتوفيت سنة 634 هـ 1236 م) ودفنت في تربة الخلاطية ببغداد.
ومن الطريف أن هذه الأديبة العراقية "شجرة الدر"، عاصرت ملكتين مسلمتين في العالم الإسلامي: أولاهما، الملكة ، رضية الدين " سلطانة دلهي بالهند الإسلامية، وهي تعتبر أول ملكة مسلمة جلست على عرش مملكة إسلامية (634- 638 هـ -1236- 0 124 م). والملكة الثانية هي سميتها في الإسم، سلطانة مصر المعروفة "شجرة الدر"، صاحبة الفضل الأول في إخفاق الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا لويس ، التاسع عن مصر سنة 647 هـ (1249 م).
وإذا انتقلنا إلى عالم الفنون والعمـارة، نجد أن، العباسيين لم يكونوا أقل اهتماما من الأمويين في مجال التشييد والتعمير، ففي العمارة بنى (أبو جعفر المنصور" على نهر دجلة عاصمته" بغداد (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، لأن مـعظم المدن الإسلامية، كانت إما مستطيلة كالفسطاط، أو مربعة كالقاهرة، أو بيضاوية كصنعاء. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه المدن نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها، ولعل الخليفة "المنصور" تأثر بهندسة بعض العواصم القديمة مثل مدينة الحضر جنوب غرب الموصل ومثل مدينة همذان مثلاً. المهم هنا أن خطة المدينة المدورة بغداد، تعتبر ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي. هذا إلى جانب المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة.
وإلى جانب العمارة وجدت الزخرفة التي وصفت بأنهما لغة الفن الإسلامي، وتقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح. وسمي هذا الفن الزخرفي الإسلامي في أوروبا باسم أرابسك بالفرنسية " ARABESQUEوبالأسبانية ( ATAURIQUE) أي التوريق. وقد عرف الفنان المسلم ما يسمى الآن بالفن التجريدي ( SURREALISM ABSTRACT ) لأنه كثيراً ما كان يأخذ الوحدة الزخرفية النباتية كالورقة أو الزهرة، ويجردها من شكلها الطبيعي حتى لا تعطى إحساسا بالذبول والفناء، فيجردها ويحورها في أشكال هندسية حتى تعطي الشعور بالدوام والبقاء والخلود .
كذلك وجد الفنانون المسلمون في الحروف العربية أساسا لزخارف جميلة، ومن ثم صار الخط العربي فناً رائعاً، على يد خطاطين مشهورين. فهناك الخط الكوفي الذي يستعمل في الشئون الهامة مثل كتابة المصاحف والنقش على العملة، وعلى المساجد، وشواهد القبور. ومن أبرز من اشتهر بكتابة الـخط الكوفي، مبارك المكي " في القرن الثالث الهجري في خلافة "المتوكل على الله العباسي "، وهناك خط النسخ الذي استعمله الناس في التراسل والتدوين وفي نسخ الكتب، ولهذا عرف بهذا الاسم، وقد نبغ في كتابته عدد من الخطاطين أمثال "ابن مقلة (ت 328 هـ) " ولابن البواب (ت 13 4 هـ) " وياقوت المستعصمي في القرن السابع الهجري ".
أما فن التصوير، أي رسم الإنسان والحيوان، فبالرغم من أن بعض علماء المسلمين الأولين، اعتبروه مكروهاً، إلا أنهم لم يفتوا بتحريمه. والظاهر أن خلفاء بني أمية وبني العباس قد ترخصوا في ذلك إذ توجد صور آدمية متقنة على جدران قصورهم التي اكتشفت آثارها منذ عهد قريب في شرق الأردن وسامراء،كذلك ورد في كلام المؤرخين أن الخليفة "الأمين " كان لديه قوارب لنزهته في دجلة على هيئة الأسد والنسر والدلفين، وأن قصر "(المقتدر بالله " اشتمل على تماثيل متحركة لفرسان بخيلها تتقدم وتتأخر كما في الحرب. هذا إلى جانب قبة القصر الخلافي في بغداد التي أقيم في أعلاها على عهد "المنصور" تمثال لفارس بيده رمح يتحرك في اتجاه الريح. كذلك وصلت إلينا كتب عربية موضحة بالصور الجميلة التي رسمها المصورون المسلمون مثل " الو اسطي " وغيره في مقامات "الحريري " وكتاب "كليلة ودمنة".
كذلك ازدهرت الموسيقى وتطورت آلاتها ولا سيما في مدينة بغداد التي صار لها مركز الصدارة والشهرة في هذا الفن. ومن أشهر المغنين والمغنيات في العصر العباسي الأول: قمر البغدادية" و" إبراهيم الموصلي "، وابنه "إسحاق " وتلميذه "أبو الحسن علي بن نافع " الملقب "بزرياب " الذي هاجر إلى المغرب والأندلس وحمل معه إلى هناك الموسيقى الشرقية التي ما زال تأثيرها باقيا في الموسيقى التي تعرف إلى اليوم في المغرب والجزائر وتونس باسم "الموسيقى الأندلسية". كذلك برع في دراسة الموسيقى من الناحيتين النظرية والعملية عدد من كبار العلماء وعلية القوم أمثال "الكندي " و!الفارابي " والخليفة "الواثق العباسي ". وكل هذا يدل على أن الحضارة المزدهرة التي اختصت بها بغداد، قد غذت الروح الإسلامية في مختلف الأقطار غذاء تاماً.
ولقد واكب هذه النهضة العلمية نشاط صناعة الورق، ونسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها مما ساعد على انتشار الفكر الجديد في مختلف الأمصار،فأصبحت بغداد بذلك المدينة الممتازة في العالم الإسلامي،( CITY PAREXCELLENCE) وهذه الصفة العالمية التي تميزت بها بغداد جعلتها كعبة يحج إليها المسلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما جعلت حضارتها تطغى على جميع الحضارات الإسلامية الأخرى