جاء الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
* بيت المال 'وزارة المالية':
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.
ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.
وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].
وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:
[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.
وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:
1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالصراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.
.