حينما حلّ الأميركيون محل البريطانيين في الشرق الأوسط، بعد هزيمة دول العدوان: إسرائيل بريطانيا وفرنسا، في قناة السويس قبل حوالي نصف قرن مضى، بدا للجميع أن أميركا ستبدأ عصراً جديداً في منطقة الشرق الأوسط و«ستفصل في النزاع بين إسرائيل والدول العربية، وتنشر الازدهار والسلام في المنطق». ثم توالى الرؤساء، واحداً بعد الآخر منذ دوايت آيزنهاور معلنين القيام بهذه المهمة الصعبة، ولكنها غير عسيرة على دولة عظمى كأميركا. ولسوء الحظ فشلت كل المحاولات، وبعضها بشكلٍ مزرٍ لحل هذا النزاع الذي يشكل إحدى المعضلات «المزمنة والمحيرة وغير القابلة للتصوّر. ولكن وعلى ضوء الأحداث الجديدة، تبرز هذه المشكلة مجدّداً في ذهن الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما». وفي زحمة كمّ الكتب التي تتناول مثل هذه المواضيع، يقف كتاب باتريك تايلر «عالم من المشاكل» في قمة القائمة، من حيث أنه يطرح مشاكل الشرق الأوسط، وعلى رأسها المشكلة الفلسطينية، طرحاً «طازجاً»، موضحاً فيه أن أسلاف أوباما من الرؤساء والمستشارين لم يضيع فرصهم، ولكن أيضاً كيف جعلوا الأمر أكثر سوءاً وتعقيداً بسبب انحيازهم الزائد إلى جانب إسرائيل، إضافة إلى تأزم العلاقة مع إيران والاجتياح غير الموّفق للعراق. الكاتب يرسل شبه وصفات تحذيريّة أو خلاصات وافية إلى الرئيس أوباما تبيّن كيفية تفادي أخطاء من سبقوه من الرؤساء وكيف ينبغي أن يتم العمل في المستقبل بصورة أفضل. وفي رأي الكاتب أن أوباما، إذا ما أنهى ولايته الأولى دون أن يسجل بعض النجاحات المرموقة في الشرق الأوسط، فإن الفرصة الأخيرة لإحلال نظام معتدل في المنطقة، ربما، ستذهب سدى، وبكلمات أخرى، سيضاف ذلك إلى سجل إخفاقات أميركا الطويل.
يتميّز الكتاب بمسحة شخصية وشفافية واضحة، فالكاتب هو مراسل صحافي وليس أكاديمياً، إذن فهو يعنَى بتسجيل اللحظات والمواقف، مثل تلك اللحظات التي يكون فيها الرؤساء الأميركيون ومستشاروهم في حالة حيرة وغضب، كتلك اللحظات التي استثار فيها وليم سوليفان، السفير الأميركي في إيران، حينما لاحقه وألّح عليه بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي أيام سقوط الشاه، لإنقاذ نظام حكم الشاه في اللحظة الأخيرة بتدبير انقلاب عسكري. وحينها أبلغه السفير بعدم وجود أية فرصة ولو ضئيلة لتحقيق هذا الأمر، مضيفاً بشكل قاطع: «هل تريد مني ترجمة ذلك إلى البولندية؟»، في إشارة إلى أصل بريجينسكي البولندي، أو لحظة اتصال بيل كلينتون، الذي لم يزل رئيساً، بكولن باول، وزير الخارجية القادم في إدارة جورج دبليو بوش الجديدة، ليخبره بأن ياسر عرفات شخص «كاذب»، حطّم فرص السلام. لكن الحقيقة، كما يكتب تايلر، هو أن مسؤولية إخفاق اجتماع كامب ديفيد تقع على إيهود باراك وكلينتون أكثر مما تقع على عرفات. ويستمر الكاتب بسرد مثل هذه اللحظات، ومنها يوم حمل هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي، رسالة من رئيسه ريتشارد نيكسون لتسليمها إلى الرئيس السوفياتي آنذاك ليونيد بريجينيف، يدعوه فيها للانضمام إلى أميركا بغية إنهاء الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، والمضي في إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية. لكن كيسنجر قرّر، ببساطة، وفي منتصف الطريق إلى موسكو، عدم تسليم الرسالة إلى بريجينيف. كانت رسالة نيكسون، كما كتب تايلر، ليست في صالح المشروع الذي يطمح كيسنجر إلى تحقيقه، وهو حماية إسرائيل. كانت مبادرة تعاون أميركي – روسي «ستدفع كيسنجر إلى مهمة شاقة وخطرة تستدعي ممارسة الضغط على إسرائيل» وهذا ما لا يود فعله. لقد تخلص من الرسالة، وبعد ذلك شجّع إسرائيل على انتهاك وقف إطلاق النار، الذي كان من المفروض أن ينهي الأعمال العدوانية، وبذا منح إسرائيل فرصة تحسين وضعها العسكري. وبهذه الممارسات من عدم الانصياع، وهي ممارسات يصفها المؤلف بأنها غير قانونية، يكون كيسنجر قد أغلق الباب أمام احتمال إنهاء حرب عام 1973، واحتمال أن تصبح إسرائيل في وضع أقل قوّة، أو إجبارها على تحقيق تسوية للقضية الفلسطينية بدفع من الأميركيين والروس.
الكتاب يحفل بمثل هذه الروايات التي بعضها من نتاج بحث المؤلف في مواد حديثة رفعت اليد عن سرّيتها، وبعضها انتقاها من تحقيقاته عبر سنوات طويلة من عمله كمراسل في الشرق الأوسط لصحيفتي «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» الأميركيتين. الصورة التي يرسمها تايلر تغطي عشرة رؤساء أميركيين بدءاً من آيزنهاور وحتى جورج دبليو بوش، بعضهم «غير سويين» مدفوعين بهذا الشكل أو ذاك من قبل مستشاريهم «الجهلة» أو «العنيدين». ومن هؤلاء، على سبيل المثال، دونالد رامسفيلد وديك تشيني أثناء ولاية جورج دبليو بوش، وبول بريمر، الحاكم المدني للعراق بعد الاحتلال، الذي يصفه بأنه «بيروقراطي من بيروقراطيي واشنطن، كثير الاعتداد بنفسه»، وجون م. دويتش، رئيس المخابرات المركزية الأميركية المعيّن من قبل كلينتون، الذي يقول عنه إنه «شخص متغطرس، وباحث ضئيل الشأن في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا».
ومن ضمن المسؤولين رفيعي المستوى السابقين، يصف تايلر كيسنغر بأنه شخص متهوّر، كثير الكذب. ثم تستمر القائمة لتشمل وولت روستو، الذي أعطى لندون جونسون استشارات خاطئة، وكذلك ألكساندر هيغ، الذي يقول عنه إنه «شجع الإسرائيليين على اجتياح لبنان عام 1982». ورغم أنه حاول سريعاً أن يتدارك استجابته الإيجابية لخطة أرئيل شارون في الاجتياح، إلا أنه لم يحذّر الرئيس «الحالم» ريغان من الحرب الوشيكة ولا يقترح أية خطة لوقفها. أما غاسبر واينبرغر، فلم يطع أوامر ريغان وكان يرفضها جميعاً. تايلر لا يستثني من هذه القائمة من الوزراء والمستشارين إلا جيمس بيكر، الذي يعتبره من المستشارين القلائل الذين قدّموا استشارات صحيحة على مدى سنين، خاصة دعوته، وبشكل غير مسبوق، لممارسة الضغط المالي على الحكومة الإسرائيلية، ويستثني من الرؤساء آيزنهاور الذي وقف بوجه البريطانيين في أزمة قناة السويس، إلى جانب عدم تورّطه في عملية انقلاب عام 1953 ضد مصدق في إيران، وهي العملية التي استمرت آثارها وتداعياتها لسنين طويلة. إن قائمة اتهامات تايلر تبدأ بالرئيس لندون جونسون «الذي فشل أولاً في جعل إسرائيل تعيد الأراضي التي احتلتها في حرب الأيام الستة إلى أصحابها العرب، وثانياً إخفاقه في وقف برنامج تطوير الأسلحة النووية في إسرائيل»، وهذا ما أتاح لإسرائيل بسط هيمنتها العسكرية على المنطقة. وبالنسبة لريتشارد نيكسون فإن الكاتب يمنحه بعض النقاط الإيجابية، لمحاولته الانسحاب من الطريق الخطرة الذي سلكه سلفه «لكن سمعته تشوّهت بفضيحة ووتر غيت ومناورات كيسنجر».
أما الرئيس ريغان فيقول عنه تايلر إنه قد دعم الحكم السابق في العراق ضد إيران في حرب الخليج الأولى حد تزويده بمعلومات عسكرية لضرب القوات الإيرانية بالأسلحة الكيماوية. وحينما يأتي الحديث عن بيل كلينتون، يقول عنه إنه «المستفيد من كل المقاربات الكبرى: نهاية الحرب الباردة، مجيء إسحاق رابين واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالدولة اليهودية». غير أن كلينتون «منح نفسه لاستغلال بنيامين نتنياهو وإيهود باراك. ثم حاول محاولة أخيرة، لكنها سقيمة، لتسوية مسألة المستوطنات، وحينما فشل لام الجميع سوى نفسه. كما أنه توانى وراوغ مع موضوع تهديد شبكة القاعدة».
تايلر يحسن بشكل خاص تصوير علاقة أميركا بإيران. إنه يصف بدقّة الموقف المتخاذل لجيمي كارتر، حينما حاول أن يوفق بين معتقداته المسيحية والحاجة إلى دعم حليف أميركا، شاه إيران، الذي أبقى نظامه في قبضة الشرطة السريّة التي مارس رجالها تعذيب الإيرانيين. لكن الحال سرعان ما انقلب رأساً على عقب، حينما أطيح بالشاه، وأخذت الولايات المتحدة الأميركية تدعم النظام العراقي السابق في حربه ضد إيران في مارس (آذار) 1988، واستخدامه للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في مدينة حلبجة. كان تايلر ومراسلون أجانب آخرون قد دخلوا حلبجة قادمين من إيران بعد القصف، فأبيد أكثر من خمسة آلاف مدني كردي. أصيب تايلر بالدهشة لما شاهده في ذلك اليوم فكتب يقول «أجساد عشرات الصبايا ممن كنّ يلعبن في يوم الهجوم، ممدّدة مثل الدمى وكيفما اتفق، على سرير من الحصى. عيون بعضهن مفتوحة، تحدّق صوب السماء. الوجوه تبدو وكأنها تومئ، نافدة الصبر، إلى من بقي من الأحياء لجمعهم». في ذلك الوقت، يكتب تايلر، كان صدام حسين حليف أميركا، وأرسلت وكالة المخابرات التابعة للبنتاغون ضابطين أميركيين إلى بغداد ومعهما خطط شاملة للحرب الجويّة وكشوفات عن مواقع الدفاع الجوي الإيراني والتحصينات العسكرية. كانت الوكالة على علم باستخدام العراق للأسلحة الكيماوية. وحينما أبدى الكونغرس الأميركي احتجاجه على ضرب حلبجة بالأسلحة الكيماوية، قام الجمهوريون، من ضمنهم، ديك تشيني، بإحباط مشروع فرض عقوبات على نظام صدام.
كتاب «عالم من المشاكل»، لعله أهم كتاب يتناول تعامل البيت الأبيض مع منطقة متفجرة وحيوية. إن صفحاته الستمائة تتوقف فجأة عند عام 2008. وفصله الأخير لا يتناول جورج دبليو بوش إلا بشكل مقتضب، فيما يوجه اتهاماته الكبيرة لأغلب نزلاء البيت الأبيض خلال نصف القرن الماضي بتفاصيل إنسانية، ولكن بصور سوداوية قاتمة. إن بناءه «التراجيدي» يعتمد على تلخيصه للعلاقة الاستحواذية التناقضية بين الولايات المتحدة الأميركية وأصدقائها على امتداد الشرق الأوسط، الذين تحولوا إلى أعداء ثم عادوا وتحوّلوا إلى أصدقاء مرّة أخرى. إن سياسة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، كما يشير المؤلف في المقدمة، قد أضحت بشكل متزايد متناقضة وغير متوازنة، كما لو أن السمة المميّزة للدبلوماسية الأميركية قد توقفت.