3- معاني علمية لخشوع الجبال و تصدعها :
تعتبر الجبال، وهي المناطق المنضغطة من القشرة الأرضية (Zones de compression) ، المجال الأمثل الذي يمكن من خلاله دراسة تشوهات مواد القشرة الأرضية، حيث تتعدد التشوهات و تتنوع بشكل يصعب معه حصرها.
و نظرا للتنوع الكبير في البنيات الانضغاطية (Structures de compression) الملاحظة في الجبال، حيث تكونت هذه البنيات في ظروف حرارة وضغط جد متباينة تتراوح ما بين الظروف السائدة قرب سطح الأرض والظروف التي تطبع أعماق القشرة الأرضية، فإن التشوهات التي تظهر في السلاسل الجبلية تتطلب تقسيم الوحدة الجبلية إلى مجموعة من النطاقات والمجالات تتميز بسيادة قوانين متشابهة وآليات متماثلة، تحكم تشوه الصخور داخل كل مجال. هذه المجالات المتراكبة فيما بينها هي ما يصطلح عليه بالمستويات البنائية (Niveaux Structuraux).
1.3- آثار الظروف المتغيرة للضغط و الحرارة على الصخور المنضغطة :
لقد عرفنا في الفقرة السابقة أن المستوى البنائي مجال يتميز بسيادة نفس آلية التشوه (Mécanisme de déformation) ، و هذا يقتضي بالطبع أن نتحدث عن آليات التشوه المختلفة التي تعمل داخل القشرة الأرضية في حالة الانضغاط، و ذلك بدراسة آثار الرفع التدريجي للضغط و الحرارة على الصخور المنضغطة.و تظهر نتائج مثل هذه التجارب (الشكل5 )، أن الصخور تتعرض للصدع (Comportement cassant) تحت ظروف الضغط والحرارة السائدة قريباً من سطح الأرض. ثم إذا رفعنا الضغط و الحرارة، فإن الصخور تتعرض للطي و الالتواء (Comportement Ductile) ، قبل أن تصل هذه الصخور إلى نقطة الذوبان (Point de Fusion) فتصير كالسوائل المائعة.
و تحدد هذه التفاعلات المختلفة، بشكل مباشر، الآليات التي تحكم التشوه داخل القشرة الأرضية (الشكل6) :
فعندما تتعرض الصخور للتصدع، يظهر التشوه على شكل فوالق (Failles)، فيكون المجال خاليا من الطيات (Plis)، مليئا بالصدوع بسبب سيادة القص (Cisaillement) كآلية رئيسة للتشوه ؛
و عندما يتم التشوه دون كسر أو صدع، فإن الصخور تتعرض للالتواء و الطي (Plissement)، وذلك بفعل آليتين مختلفتين :
- الثني (Flexion): حيث تتعرض الصخور في مرحلة أولى، إلى الالتواء مع الحفاظ على نفس سمك الطبقات الأصلي، و تسمى الطيات الناتجة عن هذه الآلية : الطيات المتساوية السمك (Plis Isopaques).
- البطح (Aplatissement): في مرحلة متقدمة يكون التشوه أشد وأقوى و أعم، فتتعرض كل الصخور إلى بطح عام مصحوب بظهور التنضد (Schistosité) ، كما أن السمك يصبح متباينا داخل الطبقة الصخرية الواحدة فنتحدث عن الطيات المتباينة السمك (Plis Anisopaques). في هذه المرحلة يبلغ تقلص المسافة الأصلية للطبقات الصخرية مداه الأقصى.
الشكل 5:- توزيع مجالات التشوه وآلياته المختلفة حسب الضغط و الحرارة
و في مرحلة أخيرة، في الأعماق التي تتعرض فيها الصخور لدرجات حرارة و ضغط أعلى من تلك التي تميز نقطة الذوبان، تكون آلية التشوه السائدة هي السيحان (Ecoulement)، و من ثم فإن الصخور تسيح على طريقة السوائل و تشكل طيات تختلف عن تلك المتواجدة في مستويات أعلى، بحيث يحدث الالتواء دون أي تقلص في المسافة الأصلية للطبقات الصخرية.
2.3- المستويات البنائية الثلاث :
يتم تقسيم المستويات البنائية إلى ثلاثة مستويات متراكبة تتناسب مع التقسيمات التكتونية (Subdivisions Tectoniques) المعهودة (الشكل 7) :
أ- المستوى البنائي الأعلى : وهو مجال الفوالق و الصدوع، و آلية التشوه السائدة فيه هي القص ؛
ب-المستوى البنائي الأوسط: و هو مجال الطيات المتساوية السمك، و آلية التشوه السائدة فيه هي الثني؛
ج- المستوى البنائي الأسفل: وهو مجال الطيات المتباينة السمك (مجال الصخور المتحولة)، و ينقسم إلى نطاقين: نطاق أعلى تكون الطيات فيه مصحوبة بتنضد عام ؛ و نطاق أسفل، يغيب فيه التنضد وتتعرض فيه المواد الصخرية للذوبان. أما الآليات السائدة في هذا المستوى البنائي، فهي البطح ثم السيحان.
الشكل 6:- رسم توضيحي لآليات التشوه المختلفة و بعض نماذج التشوه، داخل القشرة الأرضية
3.3- خلاصة :
توضح هذه المعطيات العلمية الثابتة بجلاء أن صخور الجبال تتميز بخاصيتين اثنتين، هما خاصية الطي أو الالتواء و خاصية التصدع. و نستطيع القول: إن القرآن الكريم قد سبق بالإشارة إلى هذه الحقيقة العلمية منذ أزيد من أربعة عشر قرن في قوله عز و جل : {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعاً من خشية الله.}، إذ نفهم من الآية الكريمة أن خشية الجبال لله تتم من خلال التواء الصخور وطيها (و هو الخشوع)، و من خلال تكسرها و تفلقها (و هو التصدع).
خاتمة :
يقول الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} : "و المعنى:لو كان المخاطب بالقرآن جبلاً، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بالقرآن تأثراً ناشئاً من خشية الله، خشية تؤثرها فيه معاني القرآن". لكننا نرى أن تأثر الجبال من خشية الله، قد يعود لسبب آخر غير تأثره بمعاني القرآن (كما بينا ذلك في المبحث النحوي)، فتخشع وتتصدع. بل إن القرآن الكريم نفسه يخبرنا أن الجبال قد يبلغ بها التأثر من خشية الله مبلغا يفوق الخشوع و التصدع بكثير، يقول تعالى في الآية 143 من سورة الأعراف: {قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا.}.
الشكل 7:- مقطع نظري لجزء من القشرة الأرضية يبين المستويات البنائية الرئيسة و نوعية البنيات المقابلة لها
و من ثم فالخشوع (بالالتواء و الطي) والتصدع (بالتشقق و الفلق)، قد تكون صفتان ملازمتان للجبال الدائمة الخشية لله، فهي ليست مجرد جمادات وأحجار صماء كما نتوهم، بل هي مخلوقات مسخرة مأمورة منقادة مطيعة، تسبح و تؤوب... ، يقول تعالى في سورة الأنبياء ، الآية 79 :{و سخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير، و كنا فاعلين.}، كما أنها قد تتأثر أيما تأثر من فرط سماع كلمات الشرك تصدر عن الإنسان المكلف، يقول عز من قائل في سورة مريم ، الآيتين 90 و 91 :{يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض و تخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمان ولدا.}.
و مما جعلنا ننحو هذا المنحى في فهم الآية الكريمة قوله عز وجل {لرأيته} والرؤية بصرية كما جاء في تفسير التحرير و التنوير، و قوله أيضا {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}، فالآية واردة إذن على سبيل التمثيل لا التخييل كما يقول الإمام أحمد ، معقبا على قول الزمخشري (هذا تمثيل و تخييل) : "و هذا مما تقدم إنكاري عليه فيه، أفلا كان يتأدب بأدب الآية : حيث سمى الله هذا مثلا و لم يقل : و تلك الخيالات نضربها للناس..."[2].
في الختام لابد من الإشارة إلى أن الله قد ضرب المثل في هذه الآية لتبيان عظمة قدر القرآن و علو شأنه وقوة تأثيره على النفوس كما يقول المفسرون، بحيث لو كان المخاطب بالقرآن جبلا لخشع و تصدع من خشية الله، بالرغم من قسوته و شدة صلابته. كما أن القصد من ذلك توبيخ الإنسان على غلظته و على قسوة قلبه، لأنه لا يتخشع عند سماع القرآن أو عند تلاوته[3]، قال العوفي عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية[4] : "...فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة و التخشع.".فهلا تعامل المسلمون مع القرآن بما ينبغي له من حسن أدب و جيد فهم و عميق تدبر ؟ أم أن القلوب قد أظلمت و النفوس قد فسدت ، فلا يبرح القرآن الأسماع و لا يجاوز الحناجر ؟، يقول تعالى في سورة محمد ، الآية 24 :{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.
التواصل مع المؤلف:
الهاتف: المحمول: 0021267575890 ؛ الثابت: 0021236613300- البريد الإلكتروني:elghalbi@menara.ma..
الهوامش:
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - كل المعلومات و المعطيات العلمية الواردة في هذا المقال مأخوذة عن كتاب "تشوهات مواد القشرة الأرضية"، باللغة الفرنسية ، لصاحبه : Maurice MATTAUER . (انظر لائحة المصادر).
[2] - انظر تفسير الكشاف. الجزء الرابع.الصفحة 496 .
[3] - انظر صفوة التفاسير. الجزء الثالث. الصفحة336.
[4] - تفسير ابن كثير.الجزء الرابع. الصفحة 343.
لائحة المصادر:
المصادر العربية :
- القرآن الكريم. رواية حفص عن عاصم .
- ابن كثير عماد الدين أبو الفداء إسماعيل."تفسير القرآن العظيم" .مؤسسة الكتب الثقافية .بيروت .1994 .ط4.
- الزمخشري محمود بن عمر بن محمد ."الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل".دار الكتب العلمية .بيروت .1995 .ط1 .
- بن عاشور الطاهر "تفسير التحرير و التنوير" .دار سحنون للنشر و التوزيع .تونس .
- الصابوني محمد علي ."صفوة التفاسير" .دار الفكر .بيروت .1996 .ط1 .
- الزحيلي وهبة ."التفسير الوجيز و معجم معاني القرآن العزيز" .دار الفكر .دمشق .1996 .ط1 .
- ابن عقيل بهاء الدين عبد الله ."شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" .ط2 .
- المكودي أبو زيد عبد الرحمن بن صالح ."شرح المكودي على الألفية في علمي النحو و الصرف" .إشراف محمد بنيس .دار المعرفة .البيضاء .1998 .ط1 .
- الأشموني ."شرح الأشموني على ألفية ابن مالك" .إشراف إميل بديع يعقوب .دار الكتب العلمية .بيروت .1998 .ط1 .
- ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ."لسان العرب" .دار صادر .بيروت .1994 .ط4 .
- وزارة التربية الوطنية للمملكة المغربية ."المعجم العلمي و التقني .فرنسي – عربي" .مكتبة عالم المعرفة .الرباط .1994 .350 ص .
- الخطيب أحمد شفيق ."معجم المصطلحات العلمية و الفنية و الهندسية .إنكليزي – عربي" .مكتبة لبنان .بيروت .1995 .ط6 .
- مشرف محمد عبد الغني و إدريس عثمان ."قاموس مصطلحات الرسوبيات المصور" .مطابع جامعة الملك سعود. الرياض .1990 .ط1 .
المصادر الأجنبية :
- Mattauer. M ; (1980) : « Les déformations des matériaux de l’écorce terrestre ». Coll. Méthodes. Hermann. Paris.2ème eds. 493 p.
- Michel. J-P ; Fairbridge. R.W ; Carpentier. M.S.N, (1997): « Dictionnaire des Sciences de la Terre. Anglais-Français/Français-Anglais ». Paris. 3ème eds. 500 p.