يقول تعالى في سورة الحشر:{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}. ومعنى ذلك أن الجبال قد تخشع و تتصدع من خشية الله، لو كان الخطاب القرآني موجها إليها، يقول الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير و التنوير :"والخطاب في (لرأيته) لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام، و الرؤية بصرية و هي منفية لوقوعها جوابا لحرف (لو) الامتناعية". فهل حقيقة أن خشوع الجبال و تصدعها غير واقع لعدم إنزال القرآن عليها؟، بعبارة أخرى، هل انتفاء وقوع فعل الشرط (لو أنزلنا)، يؤدي بالضرورة إلى انتفاء وقوع جواب الشرط (لرأيته)؟.
مفاتيح نحوية:
يقول المكودي شارحا قول ابن مالك في الألفية (لو حرف شرط في مضي) : " يعني أن لو حرف شرط تدل على تعليق فعل بفعل فيما مضى وتسمى لو هذه امتناعية لأنها تدل في الغالب على امتناع الشيء لامتناع غيره." ويقول ابن عقيل في شرحه : "...و فسرها سيبويه بأنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، و فسرها غيره بأنها حرف امتناع لامتناع. و هذه العبارة الأخيرة هي المشهورة، والأولى الأصح."، وجاء في حاشية الشيخ أحمد عبد الفتاح الملوي الأزهري على شرح المكودي : "يقول ابن مالك: حرف يدل على انتفاء تال يلزم لثبوته ثبوت تاليه.". يقول الأشموني قي شرحه : إن عبارة سيبويه (حرف لما كان سيقع لوقوع غيره)، "إنما تدل على الامتناع الناشئ عن فقد السبب لا على مطلق الامتناع."، و يقول أيضا: إن عبارة ابن مالك (حرف يدل على انتفاء تال يلزم لثبوته ثبوت تاليه) "أي أن جواب لو ممتنع لامتناع سببه، و قد يكون ثابتا لثبوت سبب غيره.". و هذا يفيد أن إنزال القرآن على الجبل ملزم لخشوعه و تصدعه، لكن العكس غير لازم مطلقا، فيكون بذلك خشوع الجبال وتصدعها ثابتا لثبوت سبب آخر للخشية من الله.
معاني علمية من وحي الآية:
بعد هذا المبحث النحوي و الذي بينا من خلاله، من الناحية اللغوية ، إمكانية تحقق الخشوع و التصدع في الجبال بالرغم من عدم توجيه الخطاب القرآني إليها، سنحاول أن نعرض لبعض المعاني العلمية التي استوحيناها من الآية الكريمة بهذا الخصوص.
1- معاني لغوية :
- خاشعاً : جاء في لسان العرب (مادة خشع)، الخشوع: الخضوع، و الخاشع: الراكع في بعض اللغات، وخشع سنام البعير إذا أنصي فذهب شحمه و تطأطأ شرفه، و جدار خاشع إذا تداعى و استوى مع الأرض.
و بالتالي ففي الخشوع (الخضوع و الركوع و الطأطأة...)، حركات تؤدي إلى نوع من الانكماش وتقلص الحجم.
- متصدعاً: يقول ابن منظور (مادة صدع) : الصدع، الشق في الشيء الصلب، وتصدع القوم، تفرقوا.
2- تراتبية الخشوع و التصدع ونتائج التجارب حول مقاومة الصخور[1]:
إن القرآن الكريم عندما تحدث عن الخشوع والتصدع كأسلوبين وصورتين من صور تمثل خشية الله في الجبال بدأ بالخشوع قبل التصدع فقال عز و جل :{لرأيته خاشعا متصدعا} و لم يقل متصدعا خاشعا. فهل هذه التراتبية تشير إلى ترتيب زمني معين؟، أم أنه ترتيب لفظي فقط لا دلالة له و لا إشارة و لا إيحاء؟.
1.2- العلاقة بين القوى الضاغطة وتشوهات الصخور انطلاقا من التجارب الثلاثية المحاور:
تعتبر التجارب المخبرية السبيل الوحيد لمعرفة العلاقة الموجودة بين قوى الضغط والتشوهات الصخرية الناتجة عنها، أما ملاحظة التشوهات التي تصيب الصخور داخل القشرة الأرضية، فلا تسعفنا لا في معرفة الظروف التي سادت القشرة الأرضية إبان التشوه، ولا في إعادة تحديد (Reconstitution) المراحل التي مرت منها عملية التشوه. لأن ما نلاحظه في الميدان إنما هو نتيجة نهائية لهذه العملية. و تمثل التجارب الثلاثية المحاور (Essais Triaxiaux)، أهم التجارب في هذا الإطار.
أ- التجارب المختلفة ( الشكل1) :
يتم وضع عينة صخرية ذات شكل أسطواني داخل "حافظة" (Enceinte)مملوءة بسائل مضغوط، فتكون بذلك العينة الصخرية خاضعة لقوة ضغط هيدروستاتيكي σ i (Pression Hydrostatique) وحدة قياسها هي (Kg/cm2). تتم بعد ذلك ممارسة قوة انضغاط محوري (Compression Axiale)، أو قوة جر محوري (Traction Axiale)، على أطراف العينة الصخرية:
- تجارب الانضغاط (Essais en Compression): يتم إخضاع العينة الصخرية لقوة ضغط محورية Pأعلى من قوة الضغط الهيدروستاتيكي σ i ( P>σ i ) ، مع رفع تدريجي لقوة الضغط المحوري P، فتبدأ العينة بالتقلص التدريجي إلى أن تصل قوة الضغط المحوري Pقيمة معينة، عندها تنشطر العينة الصخرية (الشكل2)؛
- تجارب الجر (Essais en Traction):في هذه الحالة تكون قوة الضغط المحوري Pسالبة، و تكون أقل من قوة الضغط الهيدروستاتيكي σ i ( P<σ i ) ، و مع الخفض التدريجي لقوة الضغط المحوري P، تبدأ العينة بالتمدد تدريجيا ثم تنشطر (الشكل2)؛
- تجارب البسط (Essais en Extension): في هذه الحالة تكون قوة الضغط المحوري أقل من قوة الضغط الهيدروستاتيكي ( P < σ i ) ، لكنها تكون موجبة ( P > 0 ) . أما النتائج فشبيهة بنتائج تجارب الجر.
الشكل 1 :- رسم مبسط لضاغطة ثلاثية المحاور (M.Mattauer,1980).
و الجدير بالذكر أنه يمكن إجراء هذه التجارب المخبرية تحت ظروف ضغط تتجاوز 10 كيلو بار (Kbar) و حرارة تراوح 800 درجة مئوية (°C) . بتعبير آخر، فإنه بالإمكان إخضاع العينات الصخرية لظروف الضغط والحرارة المختلفة التي تسود داخل القشرة الأرضية. و يوضح الشكل 3 العلاقة الموجودة بين ظروف الضغط و الحرارة، وبين طبيعة التشوه في كل من حالة الانضغاط و حالة البسط.
الشكل 2 :- تمثيل لنتائج تشوه عينة صخرية خلال تجرب الانضغاط و تجارب البسط (M.Mattauer,1980)
الشكل 3 :- توزيع مجالات التشوهات المختلفة في حالتي الانضغاط و البسط حسب الحرارة و الضغط
ب-العلاقة بين قوة الضغط و درجة التشوه (Courbe contrainte-déformation):
يوضح الشكل 4 كيف أن الصخور الخاضعة لقوة ضغط متزايدة، تتعرض لتشوه متصل (déformation continue)، متزايد، فتتقلص في حالة الانضغاط و تتمدد في حالتي الجر أو البسط ، قبل أن تتعرض للكسر.
الشكل 4 :- منحنى العلاقة بين قوة الضغط و التشوه في حالة جسم مرن-لدن
2.2 – خلاصة :
انطلاقا مما سبق، و إذا علمنا أن القوى الكامنة وراء تكوين الجبال هي بالأساس قوى انضغاطية، نستطيع القول : لعل في التراتبية الواردة في الآية الكريمة بين الخشوع و التصدع، إشارة إلى الحقيقة العلمية التي بيناها سلفا، حيث تستجيب الصخور لقوى الانضغاط بالتقلص (الخشوع) أولا، ثم تتعرض للكسر (التصدع) في نهاية المطاف.