السياسة العسكرية في العهد النبوي
العميد/ مصطفى أحمد كمال(1)
مما لا شك فيه أن النتائج تتناسب طردياً مع الوسائل والأساليب المستخدمة لتحقيق تلك النتائج، وهذه البديهية تنطبق تماماً على جميع وكافة المجالات، وتظهر بصورة واضحة وجلية في المجال العسكري أو القتالي. وحينما نتناول الجانب العسكري في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم فإننا نقف مبهورين أمام النتائج العظيمة التي تحققت خلال بضع سنين، وهي الفترة المحصورة بين هجرة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من مكة إلى المدينة، وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وحيث نجد أن أبرز هذه النتائج التي تحققت خلال سنوات تعد على الأصابع كالآتي:
1 ـ إن بناء مجتمع إسلامي جديد في المدينة المنورة على أسس وأخلاقيات الإسلام على الرغم من التمزق الذي كان يحيا فيه مجتمع المدينة قبل وصول المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
2 ـ توسيع رقعة المجتمع الإسلامي لكي تشمل شبه الجزيرة العربية بمساحة تصل إلى مليون ميل مربع، وهي مساحة تعجز وسائل القتال الحديثة عن تحقيق مثلها في نفس الفترة الزمنية، مع مراعاة أن جميع الأطراف المعادية التي واجهها الجيش المسلم كانت تتمتع بالتفوق البشري وكثرة المعدات إضافة إلى الخبرة القتالية ودراسة طبيعة الأرض.
3 ـ بناء جيش مسلم قوي قادر على حماية المجتمع الإسلامي وتوفير الأمن له، وأيضاً قادر على حماية الدعوة الإسلامية والدعاة وهم ينتشرون شرقاً وغرباً لإبلاغ كلمة الحق للعالمين.
والنتائج الموضحة لا يمكن أن تتحق من فراغ، وهي نتائج عظيمة، ومن المؤكد أن وراءها فكراً وأساليب ووسائل عظيمة أدت إلى تحقيقها. ذلك كان المدخل لمحاولة الوصول إلى شكل السياسة العسكرية الإسلامية في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، فالنتائج المحققة تدل على أن تلك السياسة كانت على أرقى مستوى علمي من التخطيط والتنفيذ، وهو ما سوف نتعرف عليه بعد أن نتفق على مجوعة من المفاهيم العسكرية الهامة.
مفاهيم يجب الاتفاق عليها:
1 ـ المفهوم الأول: حول المعارك الحقيقية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك أحداث عسكرية كثيرة تمت في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغت هذه الأحداث نحو بضع وثمانين حدثاً[2]. وهذه الأحداث لا يمكن أن تصنف معارك عسكرية خصوصاً أن النشاط البشري يعتبر أصعب النشاطات الإنسانية بما يتطلبه من استنفار كامل للطاقة البدنية والعقلية والنفسية، وبالتالي فمن الصعوبة على بشر أن يقوموا بتنفيذ مثل هذا العدد الهائل من المعارك خلال بضع سنين. وهذا المفهوم الجوهري ارتبط أيضاً بخطأ في المفهوم الشكلي حيث أطلق اسم " غزوة "[3]على العديد من الأنشطة العسكرية في عهد الرسول، وهي أنشطة بريئة تماماً من هذا الاسم، وللدلالة على ذلك فإن معركة " أحد " يطلق عليها " غزوة أحد " وأيضاً " الخندق " تسمة " غزوة الخندق " ـ وإذا جاز للطرف الظافر أن يطلق عليها " غزوة " فهل هذا مقبول من وجهة النظر الإسلامية؟ وحتى نصل إلى المعارك الحقيقية التي تمت في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم فمن المهم هنا أن نصنف الأنشطة العسكرية التي تمارس من قبل أي قوة مسلحة، ونطبق ذلك التصنيف على الأنشطة في عهد الرسول، ولا حرج في ذلك؛ فأسس ومبادئ أي علم ثابتة من يوم اكتشاف هذا العلم، وتصنيف الأنشطة شئ بديهي في المجال العسكري. وأي قوة مسلحة في العالم تخضع أنشطتها لهذا التصنيف:
(أ) الأنشطة الروتينية اليومية:
وهذه الأنشطة تنحصر في النشاط التدريبي، وهو نشاط اهتم به الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بعد إقامة المجتمع الإسلامي في المدينة لبناء الجيش المسلم، ومن أمثلة هذا النشاط ـ على سبيل المثال ـ سرية حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان من العام الأول. كما يقع تحت هذا البند الأنشطة الخاصة بتأمين المجتمع الإسلامي والدفاع عنه، ومن أمثلة ذلك سرية عبد الله بن جحش في رجب من العام الثاني بمهمة جمع معلومات عن العدو.
(ب) الأنشطة الخاصة بالأمن الداخلي:
وهو نشاط يتضمن جميع الإجراءات المتخذة لضمان سلامة المجتمع ضد الفتن بأنواعها المختلفة، أو ضد الكوارث الطبيعية، حيث تستخدم الأداة العسكرية بإمكانياتها الكبيرة في التغلب على الآثار المترتبة على تلك الكوارث، ومن أمثلة هذه الأنشطة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الإجراءات التي اتخذت ضد يهود المدينة. فاليهود في المدينة بعد أن وقع معهم الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة تحدد حقوقهم وواجباتهم كأفراد المجتمع المسلم أصبحوا جزءاً من نسيج المجتمع المسلم، وعندما يشكل هذا الجزء فتنة تهدد وحدة المجتمع، ويتم التخلص من هذا الجزء ـ كما حدث بعد معركة الخندق ـ فإن هذا التخلص يعتبر إجراء من إجراءات الأمن الداخلي وليس معركة عسكرية.
(ج) أنشطة الواجبات الخاصة:
وهي مهام تنفذ لصالح المجتمع، وتكلف بتنفيذها الأداة العسكرية أو القوات المسلحة. وهذه المهام والأنشطة كانت تنفذ في العصر النبوي وبصورة تتناسب مع حجم النمو الذي يمر به المجتمع الإسلامي، ولعل مفهوم الجهاد في الإسلام بما يتميز به من شمولية وعمومية يمكن أن يستخرج لنا الكثير من الأمثلة التي سوف نكتفي منها بمثال واحد، هو ما قدمه عثمان بن عفان عند تجهيز وإعداد جيش تبوك.
(د) أنشطة المهام القتالية ( المعارك ):
فالمعركة العسكرية أو القتالية عبارة عن صراع بين قوتين أو أكثر يهدف كل طرف من خلاله إلى تحقيق هدفه وفرض إدارته على الطرف الآخر. ومن خلال المفهوم السابق يمكننا القول أن الجيش المسلم في عهد الرسول القائد قد نفذ سبع معارك، هي كالآتي:
(1) المعارك الدفاعية، وتشمل معارك ( بدر، وأحد، والخندق ).
(2) المعارك الهجومية، وتشمل المعارك ( فتح مكة، ووادي حنين ).
(3) معارك الإعداد ، وتشمل معارك ( مؤتة ، وتبوك ).
2 ـ المفهوم الثاني:
هو الفارق بين سبب المعركة وهدف المعركة، فالسبب الذي من أجله تشب المعركة هو الذريعة التي اتخذها أحد الأطراف لبدء القتال. أما هدف المعركة فهو الحدود أو الأماكن التي لو وصل إليها أحد الأطراف أمكنه أن يفرض شروطه، أو أن ينهي القتال الدائر، وهناك علاقة بين كل من الهدف والسبب، يمكن إيضاحها من خلال الآتي:
(أ) انطباق الهدف على السبب:
هناك معارك يكون الهدف منها هو القضاء على السبب الذي من أجله قامت الحرب، وأفضل مثال لذلك حرب " فوكلاند " بين المملكة المتحدة والأرجنتين، فقد شبت الحرب بعد استيلاء الأرجنتين على جزيرة " فوكلاند " وكان الهدف الإنجليزي من الحرب استعادة الجزيرة، وتوقف القتال بعد تحقيق الاستعادة. والمعارك التي ينطبق فيها السبب على الهدف غالباً ما تكون معارك محدودة، ويقصد بالمعارك المحدودة ـ أي غير المخططة ـ ضمن استراتيجيات الدول.
(ب) عدم انطباق الهدف على السبب:
ومثل هذه المعارك تكون معارك مخططاً لها بدقة ضمن استراتيجيات طويلة المدى، وحيث يستمر الصراع قرناً أو نصف قرن، مثل الصراع القائم في شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان، والصراع الدائر في الشرق الأوسط، وأفضل مثال لذلك حرب يونيو عام 1967م والتي كان السبب في اندلاعها هو سحب قوات الأمم المتحدة والسيطرة على مدخل خليج العقبة من خلال التواجد في صنافير وتيران، وعلى الرغم من أن ذلك هو سبب قيام الحرب إلا أن الهدف الرئيسي للقوات الإسرائيلية كان ينحصر في الوصول إلى حدود آمنة على جميع الجهات العربية ( قناة السويس في مصر ـ هضبة الجولان في سوريا ـ الضفة في الأردن).