في السياسة غالباً ما يتم اتخاذ القرارات وفق معايير محسوبة تأخذ بعين الإعتبار ما يترتب على هذه القرارات من تداعيات وطالما استهلكت وقتاً وجهداً من قبل الساسة الذين يقومون بدراستها وتمحيصها قبل أن يخلصوا إلى نتيجة مفادها أن تبنيها سيؤدي إلى خدمة المصالح الوطنية وتعزيز الأمن القومي لبلادهم.
على ضوء هذا المنطق حاولت أن أبحث عن الأسباب والدوافع التي تجعل القيادة المصرية تتبنى هذه السياسة العدائية الصريحة تجاه قطاع غزة وسكانه الذين لم يصدر منهم أو من حكومة حماس أي فعلٍ معادٍ لمصر سواء كان حادثاً حدودياً عرضياً كإطلاق نار أو غيره،حتى أن قادة حماس طالما تجنبوا الإستفزازات التي تبادر بها الحكومة المصرية لكي تستدرجهم بها من أجل الحصول على المبرر الذي طالما انتظرَتْهُ بفارغ الصبر كي تعلن عليهم الحرب التي تديرها منذ زمن بدون إعلان.
إن حالة ضبط النفس وقوة الأعصاب التي مارسها أهل غزة وكل شعب فلسطين إزاء سلوك القيادة المصرية قد تجاوزت حدود المعقول أو المألوف فيما هو متعارفٌ عليه من طبائع البشر لو حاولنا تصور ردة الفعل التي يمكن أن تصدر عن إنسان وهو ينظر إلى أخيه الذي هو جاره، وهو يستضيف ويعانق اللص الذي قتل أطفاله واحتل غرفة نومه ومطبخه وحديقته بينما يقوم أخيه ببناء سورٍ بينه وبين ما تبقى من بيته ويمنعه ويمنع أهله من الخروج أو الدخول ليصبح هو ومن تبقى من أطفاله محصورين بين سور أخيه وبين السور الذي بناه اللص،لا بل إنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يقوم بمنع الجيران الذين بادروا لمساعدة أهل بيته المنكوب المحاصر وحضروالتزويدهم ببعض الطعام والدواء من الوصول إليه لتسليمه المساعدة.
حاولت جاهداً أن أتعرف على المنطق الذي يحكم سلوك هذا الأخ الذي لم أر له مثيلاً بين كافة الأصناف البشرية، لأن كل البشر وبدون استثناء يثورون لرؤية الدماء المتدفقة من الأطفال والنساء، ولا يوجد بينهم من يمتلك الوقاحة الكافية ليناصر من يبطش بأهل أخيه أو حتى جاره الذي لا يرتبط معه بأي علاقة سوى علاقة الجوار الذي قال فيه رسول الإسلام محمد صلَّى الله عليه وسلم أن جبريل قد ظل يوصيه به حتى ظن أنه سيورثه.
لن نخرس يا معالي الوزراء لأن سياط ظلم أهل غزة ستجلد الضمائر حتى لو كانت هذه الضمائر جثثاً هامدة، وسوف تكون قصة غزة أشهر من قصة طروادة،وأشهر من قصة لينينغراد، وسوف تقوم الأجيال بقراءة كل الأسماء، وسوف يقرر التاريخ منازل قادة هذا الزمان وسيقرأون عن غرناطة فلسطين التي ستنتصر لغرناطة الأندلس، ولا بد أن بطون الكتب قد هيأت في رحم هذا التاريخ منازل جديدة لقادة جُدُد باعوا أهلهم وأخوانهم بسعرٍ أقل من سعر غاز سيناء. إنها فلسطين... وفلسطين ليس مثلها شيء،ودروسها البليغة ستَدْرُسها كل شعوب الأرض، لأنها وحدها من سيثبت إمكانية ما بدا يوماً أنه المستحيل، بينما كان غيرها يحاولون إقناع شعوبهم بإستحالة الممكن.
وعندما تشخَصُ الإسئلة ويعلو هديرها في عقولنا وفي قلوبنا وفي كل ما نملكه من أحاسيس فإنها تفيض من أفواهنا بلغة التقيّؤ أحياناً لأنها تندفع بقوة بعد أن حاولنا جاهدين ولكثيرٍ من الإعتبارات أن نكبتها وتمضي لتقول:
ما الذي سيجنيه شعب مصر من حصار غزة فوق الأرض بالنار والإسمنت وتحت الأرض بسور يأجوج ومأجوج الفولاذي؟...لعل هذا أمر سيادي لا يحق لنا أن نخوض فيه.
ماذا سيجني أبناء شعب مصر من هِبات النفط والغاز لإسرائيل التي اعترف جنرالاتها بإعدام المئات من فلذات أكبادهم بطريقة مُذِلَّة عندما جعلوهم يحفرون قبورهم بايديهم في سيناء التي استشهدوا على أرضها وهم أسرى؟... لعل هذا أيضاً أمر سيادي هو الآخر وعلينا أن نبقى خارج السور السيادي العظيم.
ما الذي يجنيه شعب مصر من تشويه صورته أمام شعوب الأرض التي هَبَّتْ بمدِّ شريان الحياة لأخوانهم بينما تقوم الحكومة المصرية بقطع هذا الشريان الذي مدته هذه الشعوب من أوروبا عبر آسيا ليتعرض للقطع في ميناء نويبع الذي جَفَّت ينابيعه في وجه قافلة الإغاثة؟
ما الذي يجنيه شعب مصر وهو يرى ويسمع كيف تبخرت السيادة المصرية عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بعبور حدوده وقامت بقتل المصريين الذين كانوا يظنون أنهم محميون بمظلة السيادة التي تتسع وتضيق حسب جنسية الذي يقوم باختراقها؟ ما الذي يجنيه شعب مصر من تحالف حكومته مع الذين يخططون للتحكم بمنابع نهر النيل ليجعلوا وجوده تحت رحمتهم من خلال تحكمهم بشرايين حياته المتدفقة من النيل الأزرق والأبيض بعد أن يصبحا تحت رحمة الحركة الشعبية التي اقترب انفصالها عن السودان الشقيق وهي التي تتغذى بحبلٍ سري ينبع من تل أبيب؟
سيادة مصر لا يصونها الذين هددوا بضرب السد العالي لإغراقها بمن فيها دون أن يتصدى لهم أحد من الحريصين على السيادة لا تصريحاً ولا تلميحا لأن الذين هَددوا يتمتعون بميزة الفعل والقول ولا يتوقعون الرد من أحد لأنهم يشعرون أنهم العدد الثاني للا أحد.
لعل السبب الوحيد الذي وجدته مناسباً لتفسير هذه المواقف، هو أن الحكومة المصرية وهي المقبلة على مخاض الإستحقاقات الإنتخابية المقبلة التي يبدو أنها ستكون عسيرةً جداً بسبب بروز شخصياتٍ مرموقة عالمياً وإقليمياً كالدكتور محمد البرادعي وعمر موسى ومباركة هَيكل بثقله الثقافي الكبير ناهيك عن الإصطفافات المكثفة للمعارضة،كل هذا قد جعل الحكومة تعقد العزم على التدخل بشكل مفضوح وسافر في مجرى هذه الإنتحابات،بما في ذلك إمكانية استعمال العنف والقمع والتزوير بشكل يؤدي إلى إحراج العالم الغربي الذي طالما أغمض عينيه عن ممارساتها،وعليه فإنها تريد أن تثبت لتل أبيب التي هي بوابة البيت الأبيض أنها وحدها الحكومة التي يمكن أن تكون الحارس الأمين لأسرائيل وأن تغييرها سيفتح باب الإحتمالات على مصراعيه وقد يؤدي إلى تغيير الخارطة السياسية للشرق الأوسط وربما يعيد رسمها على النحو الذي لا تحب إسرائيل أن تراه في أحلامها ولا في خيالها.
أمام هذا السيناريو ستضطر الولايات المتحدة تحت ضغط إسرائيل إلى الوقوف مع هذه الحكومة وستقوم بإسنادها عبر كافة المراحل الحرجة إلى أن توصلها إلى بر الأمان حتى لو سار فوق الجثث لا قدَّرَ الله.
هذا في تصوري ما يفسر جريان التيار السياسي للحكومة المصرية بالإتجاه المعاكس لغَزة ولشعب مصر العظيم وللأمتين العربية والإسلامية وحتى للإنسانية برُمَّتها.
زياد علان العينبوسي - نيويورك
Zallen1217@aol.com