كما نهانا صلى الله عليه و سلم عن صيام الوصال لما فيه من الضرر البين الذي أثبته العلم الحديث فقال صلى الله عليه و سلم (إياكم والوصال) متفق عليه، فالوصال هو حرمان البدن من المواد الغذائية ليوم أو أكثر، وقد دلت التجارب على أن الجسم يحصل على الطاقة أثناء الصيام من مدخراته السكرية أولاً والتي تكون على شكل جليكوجين مدخر في الكبد والعضلات. فإذا طالت مدة الصيام يلجأ البدن إلى مدخراته الدهنية و البروتينية من أجل الحصول على الطاقة، وهذا يعني تخريب الأنسجة و ظهور اضطرابات غذائية عصبية في الدماغ المتوسط مما يؤثر على الغدد الصماء وعلى السلوك والانفعال النفسي. و من هنا نرى أهمية كون الصيام الإسلامي مؤقتاً من الفجر إلى الغروب دون تحريم لنوع ما من الأغذية مع طلب الاعتدال وعدم الإسراف في الطعام في فترة الإفطار.
كما ربط صلى الله عليه و سلم بين الصوم و أثره في الحد من الشهوة الجنسية، فقال (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، و قد اكتشف العلماء حديثا قدرة الصيام على تقليل الشهوة من خلال الانشغال النفسي بالتفكير في الطاعة بالإضافة إلى تأثير الصيام على الهرمونات الجنسية.
و صدق رسول الله العظيم وصدق كلامه الكريم الذي لا ينطق عن الهوى، فكل يوم يثبت العلم المزيد والمزيد من الحقائق العلمية التي حدثنا عنها رسولنا الكريم منذ مئات السنين والتي تثبت أن رسولنا حق ورسالته حق وكتابه حق وكلامه حق، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } 3-4 النجم.
فهل بعد كل هذا الإعجاز العلمي السابق ذكره في السحور و الإفطار و النهى عن الوصال و الحد من الشهوة الجنسية بالصيام، نتهم النبي صلى الله عليه و سلم بأنه نسى أن يعلمنا أن للصيام فوائد صحية.
و لعلى لا أكون مغاليا إذا قلت بان غياب النص الذي يربط بين الصيام و الشفاء لهو الإعجاز العلمي بعينه، لأن في ذلك دلالة قوية على وسطية الإسلام الذي يراعى أحوال المكلفين فلا يشق عليهم في التكليف. فتخيلوا معي إخوة الإسلام أن الله تعالى قال بأن في الصيام نفع عام لكل الناس و ينبغي أن يصوم كل الناس بما فيهم المرضى، أو قال بأن الصيام مشقة بالكامل فلا يصوم إلا الصحيح و ينبغي على كل مريض أن يفطر، ثم أتى العلم الحديث ليثبت أن الصيام قد ينفع بعض الأمراض و قد يضر ببعض الأمراض، ساعتها سوف يظهر من يتهم التشريع الاسلامى بالقصور و انه من صنع البشر.
و إذا نظرنا إلى آيات الصيام في سورة البقرة ، نجد أن البيان القرآني العظيم يدعو المرضى بعدم الصيام في شهر رمضان رحمة بهم كما قال تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}البقرة184، و تكررت هذه الآية للتأكيد على تغليب اليسر على حساب العسرفى كل زمان { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}البقرة185.
وقد يحتج بعض المرضى بقوله تعالى {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة184، ولكن أغلب الظن أن المحتج بالآية لم يلحظ معنى قوله تعالى (إن كنتم تعلمون)، والتي يمكن فهمها على الشكل التالي : إن كنتم تعلمون أن في الصيام خير لكم صحياً ، وهذا الجزء من البيان الإلهي يتوافق مع المرضى الذين يعتبر الصيام وإنقاص الوزن والتقليل من الطعام وتغليب العمل على التخمة من الطعام علاجاً أساسياً لهم ، كما هو الحال عند بعض الأنواع من مرض السكري التي سيرد ذكرها لاحقاً ، وللآية مدلول آخر لبعض من نسميهم مرضى بلغتنا الطبية ، بينما هم قادرون على الصيام ، مثل المصابين بالإعاقة الجسدية كالأعمى والأعرج والأخرس ، فمثل هؤلاء و غيرهم الكثير يمكنهم الصيام وهو خير لهم على الرغم من إصابتهم بمرض مزمن قد لا يزول.
فهذه هي وسطية الإسلام النافعة لكل البشرية و الداحضة لافتراءات أعداء الإسلام ظهرت جلية في قول الله تعالى {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة184، قال ابن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير ( الآية تدل على الترغيب في الصوم وإن كان فيه المشقة لبعض الناس كالمسن والمريض والمسافر، فيكون التفضيل للصوم على الفطر إلا في المرض ففيه تفصيل يحسب شدة المرض، وقوله (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في الدنيا وثوابه في الآخرة. وجئ في الشرط بكلمة ( إن ) لأن علمهم بالأمرين من شأنه أإلا يكون محققا ؛ لخفاء الفائدتين.....انتهى بتصرف).
و ملخص قول ابن عاشور هو و أن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أن في الصوم خير لكم، و لما كان هذا العلم لا يظهر إلا بالدراسات العلمية، كان للطبيب دوره العظيم في تحديد الذي يستفيد من الصيام و الذي يتضرر منه، و هذا هو إعجاز الوسطية في دين الإسلام، فالمرضى على درجات فلا ينصحوا كلهم بالفطر لأن الصيام قد يكون فيه النفع و الشفاء للبعض، و لا ينصحوا كلهم بالصيام لأن بعض المرضى قد يصيبهم المرض بسبب الصيام، فالصيام كالدواء ينفع و يضر، و لا يستطيع تحديد النفع و الضرر هنا إلا الطبيب المسلم من أهل الاختصاص. فكلمة "مريض" قد تبدو غير محددة، فقد تبتدئ بأبسط الأمراض، وتنتهي بالأمراض المستعصية التي لا يرجى برؤها، وترك الله تعالى للطبيب الأخصائي المسلم أن يقرر ما إذا كان المريض قادرا على الصوم، أم أن في الصوم ضررا على المريض وحياته. فإذا أخبر الطبيب المسلم مريضه أنه إذا صام أدى صيامه إلى زيادة المرض عليه أو إلى هلاكه، وجب عليه الإفطار ، بحيث أنه إذا صام ومات، فإنه آثما كما يذهب إلى ذلك كثير من العلماء والفقهاء.
ومما لا شك فيه أنه لا ينصح بالصوم في أمراض معينة، في حين هناك أمراض أخرى يكون لها الصيام علاجا، و لنضرب لذلك بعض الأمثلة حتى يتضح المقال:
1. مرضى القلب
لا شك أن في الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب شريطة تناولهم الدواء بانتظام. ويفيد الصيام في علاج ارتفاع ضغط الدم، فإنقاص الوزن الذي يرافق الصيام يخفض ضغط الدم بصورة ملحوظة. أما المريض المصاب بالذبحة الصدرية فيستطيع الصيام إذا كانت أعراض الذبحة مستقرة بتناول العلاج، ولا يشكو المريض من أي ألم صدري.
و مع ذلك فلا ينصح المرضى المصابون بالذبحة الصدرية غير المستقرة، أو الذين يحتاجون إلى تناول حبوب النيتروجليسرين تحت اللسان بالصيام. كما لا ينصح مرضى الجلطة الحديثة بالصيام إلا إذا تماثل المريض للشفاء، وعاد إلى حياته الطبيعية، فيمكن الصيام مع تناول الأدوية بانتظام. وينصح المريض المصاب بقصور القلب (فشل القلب) الحاد بعدم الصيام، حيث يحتاج إلى تناول المدرات البولية، وربما بجرعات عالية.
2. مرضى الجهاز الهضمي
كثيرا ما تتحسن أعراض عسر الهضم بصيام رمضان. و أيضا يستطيع المصابون بقرحة مزمنة الصيام، شريطة تناول الأدوية المثبطة لإفراز الحمض المعدي عند السحور وعند الإفطار، أما إذا كان هناك مضاعفات خطيرة للقرحة كالنزيف، أو كان تعب القرحة يزيد بالجوع، ففي هذه الحالة ينصح المريض بالإفطار. كذلك المريض المصاب بالإسهال، ينصح بالإفطار، وخاصة إذا كان الإسهال شديدا، فالمريض في تلك الحالة بحاجة إلى تعويض ما يفقده من سوائل وأملاح بسبب الإسهال.