الفضل العظيم
الخبر في مكة
يقول ابن إسحق: وكان أول من قدم مكة بمصاب القوم من قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعي؛ فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام -أبو جهل- وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا -يعني أنه مجنون لا يدري- فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
أبو لهب يموت كمدًا
وفي حديث أبي رافع مولى العباس بن عبد المطلب لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبت الله أبا لهب وأخزاه، فقام يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر. قال: فجلس إليه والناس قيام، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضًا -يلبسون البياض- على خيل بلق بين السماء والأرض، لا يقوم لها شيء، قال أبو رافع -وكان الإسلام دخلنا وسرنا ذلك-: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل- زوج العباس- إلى عمود، فضربت به في رأس أبي لهب فشجته، وقالت: أستضعفته أن غاب سيده؟! فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة -وهي قرحة تتشاءم منها العرب- فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله. الحديث.
فضل الله
وهكذا قضى الله أمره وأنفذ تدبيره، وأوقع أول واقعة في الإسلام، فذكر أحبابه المنتصرين بفضله: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وأسكنكم بين قوم يحبونكم وتحبونهم (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وبيّن لحبيبه بعضًا من أسرار تدبيره (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، وكشف الله تعالى سعي الشيطان في جيش الكفر: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب)
إعداد وعدة .. وحساب
ِ ومنذ أن وقعت الواقعة أوجب الله تعالى على المؤمنين الأهبة والإعداد تحسبًا للقاءات قد تفاجئهم، ليس من المشركين وحدهم، بل من كل من تسول له قوته أن يحارب الإسلام وأهله أو يمكر بهم فأوحى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)، والعدة تحتاج إلى نفقة وتنبيه خاص بفضلها (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
وكان للمؤمن المقاتل ذي الإيمان السوي الراسخ حساب خاص عند الله، ليس كحساب البشر إذا احتدم القتال: مقاتل بمقاتل!! ولكن أبعد من ذلك حيث أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ)، لا يفقهون تدافعكم للشهادة وبذل المهج طلبًا للجنة، وهم إنما يقاتلون ليسمع بهم الناس استعلاء وكبرًا وخيلاء، ثم خفف الله عن عباده وقد علم ما بهم: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ)، ولقد صدق المؤمنون وعد الله وصدقهم الله وعده، فلقد كانت جيوش الفتح تلقى أضعافها عددًا وعدة في قتال الفرس والروم في فتوح العراق والشام ومصر وإفريقية، وحتى عندما عبروا مضيق جبل طارق لقتال القوط الغربيين، فكان النصر معهم ما صبروا: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
مكانة البدريين
جاء فيما روى البخاري بسنده: "… جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعُدُّون أهل بدر فيكم؟! قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة".
وبعد
فإن بدرًا وما لابسها من أحداث، وما علّق الله تعالى بها من أحكام، وما وجّه من تنبيهات لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين تحتاج وحدها سفرًا يتدارس آثارها وأخبارها فبها بدأت المواجهة الصادقة: أحقت الحق وأبطلت الباطل، وفيها علَّم الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين علومَ الحرب والسلم والإعداد والحذر والطاعة والصبر عند اللقاء، والإثخان في الأعداء حتى يستقيم أمر الله الذي أراد وبيّن