أما المكان الذي وقعت فيه المعركة، فيمكن تحديده بأشهر معالمه، وهو قرية عجّور في شمال غرب مدينة الخليل، وفي نهاية السفوح الغربية لسلسلة جبال الخليل ... ويمر بجوار القرية وادي السَّنط بالنون، نوع من الشجر، الذي يأخذ بجوارها اسم وادي عجوّر ..ويبعد المكان عن ( بيت جبرين ) بحوالي عشرة أكيال نحو الشمال وفي الشرق من قرية عجّور، تقع خربتا ( جنّابة ) تسمى أحدهما جنابة الفوقا. أي العليا والأخرى جنّابة (التحتا ) أي : السفلى ... ( انظر المخططين المرافقين ).
- ولم يكن هذا المكان مختاراً لوقوع المعركة فيه، وإنما اختاره الروم مكاناً لتجميع قواهم التي ينطلقون بها لمحاربة المسلمين ... حيث جمع الروم حامياتهم في جنوب فلسطين، وانضمَّ إليهم مَنْ يساندهم، وانتظروا الوقت المناسب للانقضاض على جيش المسلمين في فلسطين بقيادة عمرو بن العاص، ومن ثمَّ على جيش يزيد بن أبي سفيان في البلقاء، وقد اختاروا هذا المكان للتجمع، لأنه يقع بالقرب من ( بيت جبرين ) التي كانت عاصمة لأكبر مقاطعة رومانية في فلسطين وكانت تشمل منطقة غزة، وبئر السبع والخليل والقدس والرملة ....
واختاروا هذا المكان بعينه للتجمع أيضاً، لأنه يقع عند ملتقى طرق متعددة، ينتظرون، أن يأتيهم المدد، والموالون منها.
- وكانت جيوش المسلمين حينئذ موزعة، حيث خصَّ أبو بكر رضي الله عنه، كل جيش من جيوش المسلمين حين بعثه بقطاع معين من أرض الشام، وكانت فلسطين من نصيب عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكانت الإمرة العامة لأبي عبيدة ... وقد يبدو للمتعجل أن في هذا التوزيع تبديداً لقوة الجيش الواحد .. ولكن خبراء الحروب، يعدون ذلك من الخطط الحربية الحكيمة، فهو بتعدد الجيوش يربك عدوّه من حيث تجهيل مقصد كل جيش عليه، ويشتت تخطيط العدو من حيث توزيع قواته لملاقاة كل جيش منها، ومن حيث اختيار أماكن المرابطة ومواقع الدفاع. في حين يستطيع كل جيش من جيوش المسلمين أن يجد العون من الآخرين سواء بالانضمام إليه، أو بقيامه بعمليات منفردة تضطر الخصم إلى تثبيت قواته أو توجيهها وجهة معينة، يقول مونتجمري في كتابه ( الحرب عبر التاريخ ) (( المفاجأة من العوامل الرئيسية لنجاح المعركة، ولكن نجد دائماً من الصعب تحقيق المفاجأة الاستراتيجية، بينما يمكن تحقيق المفاجأة التكتيكية التي تتبوأ دائماً الصدارة أثناء وضع الخطة لأن القائد يجب أن يجبر على الرقص على ما يصنعه من أنغام طول الوقت )).. وأبو بكر رضي الله عنه، عندما وجه جيوشه متفرقة قد استطاع تحقيق الصعب وهو المفاجأة الاستراتيجية، لأنه أخفى على العدو نية، وقوة وموعد واتجاه الضربة الرئيسية، وإرسال جيوش فتح الشام بالصورة التي تمت كان من شأنه أن يبرز الشك لدى قادة الروم في نواياها وفي مقصد كل منها .. ويشرح الجنرال أندريه بوفر في كتابه (مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية ) أهمية الشك عندما يقوم القائد وأركانه بتقدير احتمالات ردود فعل الخصم حتى يتم الوصول إلى تخمينات فيقول: ( لا يبرز من خلال هذه التخمينات إلا عامل وحيد ذو قيمة مؤكدة، هو الشك ... لذا لا بدَّ لكل جيش من الجيوش من بذر الشكَّ في صفوف خصمه، حتى لا يسمح له بتقدير نواياه الحقيقية ...
- ولكن، كيف اجتمعت جيوش المسلمين مع أنها كانت موزّعة؟ بينما كان أبو عبيدة وخالد بن الوليد، يحاصران دمشق، ويقاتلان من بجبهتها، جاءهما الخبر أن جيشاً رومياً خرج من حمص قاصداً بُصرى التي استولى عليها المسلمون، وكان بها شرحبيل بن حسنة، وجاءهما خبر آخر أنَّ جيشاً كبيراً للروم تجمع في ( أجنادين ) للقضاء على جيش المسلمين في فلسطين .. عنذئذ كتب خالد إلى جيوش المسلمين كلها أن يوافوه بأجنادين، فتحركت الجيوش متجهة إلى جمع الروم في فلسطين ... وكان جمع الروم مائة ألف مقاتل، وعدد المسلمين ثلاثين ألف مقاتل.
- وكان اللقاء نصف النهار، ليوم السبت 27 جمادى الأولى 13هـ الموافق 30 تموز 634م.. وبلغ قتلى الروم ثلاثة آلاف، وفرت فلولهم المنهزمة متفرقة نحو إيلياء وقيسارية ودمشق وحمص، واستشهد من المسلمين حوالي عشرين مجاهداً. وانتصار القلة على الكثرة، ووقوف المائة أمام ثلاثمائة. وفي عقر دار الكثرة، يدل على تفوق القلّة على الكثرة، بمزايا غير مزايا التفوق في السلاح والتدريب .. فما المزايا التي تفوق بها الجندي المسلم؟ يجيبنا عن هذا السؤال أحد الرواة حيث يقول: ( لما تدانى العسكران بعث قائد الروم رجلاً عربياً من قضاعة وقال له: ادخل في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يوماً وليلة ثم ائتني بخبرهم فدخل في الناس، وهو رجل عربي لا ينكر وأقام فيهم يوماً وليلة، ثم أتاه فقال له: ما وراءك ؟ قال: بالليل رهبان وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم، فقال له القائد: لئن كنت صدقتني، لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم فلا ينصرني عليهم (ولا ينصرهم عليّ ) وعندما اشتدت الحرب، ورأى القائد الرومي ما رأى من قتال المسلمين قال للروم: لفّوا رأسي بثوب، قالوا : لم ؟ قال : يوم البئس، لأحبُّ أن أراه. ما رأيت في الدنيا يوماً أشدَّ من هذا، فاحتزّ المسلمون رأسه وإنه لملفّف ، وعندما انتهى خبر الهزيمة إلى هرقل نخب قلبه وأسقط في يده، وملئ رعباً، وكان في حمص، فولى هارباً إلى إنطاكية ... ونتيجة لهزيمة الروم في أجنادين، أصبحت فلسطين كلها مكشوفة أمام المسلمين ...
هذه هي قصة معركة أجنادين على أرض فلسطين .. بذل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دماءهم على ثراها، لتكون الأرض التي بارك الله فيها، لأهل التوحيد ... فهل تعود إلى أهل التوحيد، لتبقى ذكريات المجد مربوطة بالأرض، وتبقى الأرض مذكرة بتاريخ المجد؟... إن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله وما بذل أجدادنا في سبيله دمهم لرفع راية التوحيد، لن يعود بالأماني وإنما يعود بالشهادة ... ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مصادر البحث:
1- معجم البلدان لياقوت الحموي.
2- معجم ما استعجم للبكري.
3- تاريخ ابن كثير.
4- الكامل، لابن الأثير.
5- بلادنا فلسطين، لمصطفى الدّباغ.
6- الموسوعة الفلسطينية.
7- ( معجم بلدان فلسطين ) محمد محمد حسن شراب.
محمد محمد حسن شراب
المدينة، ص ب 3074.