التوكل والإيمان والمدد
يناشد ربه
وبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته راكعًا ساجدًا يناشد ربه النصر؛ فقد أخرج البيهقي والماوردي بسندهما عن علي -رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وجاء خبر الصباح في صحيح مسلم قال:.. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أظهرَنا الله وأعزَّنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببْنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنا نلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك، فأثنى رسول الله عليه خيرًا، ودعا له بخير، ومشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على موضع الوقعة، فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعًا مصرعًا، يقول: هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان إن شاء الله.
قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السقيفة، لا يكف عن مناشدته ربه، فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدًا"، فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). وفي رواية ابن إسحق وغيره: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبشر يا أبا بكر: أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع -غبار المعارك-، ثم خرج من العريش وهو يتلو قول الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
مدد السماء الثالثة
واختلطت الصفوف، وتلاقت السيوف بالسيوف، وحسم أمر الله للملائكة اللقاء: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، وفي الحديث عن ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت فارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك مستلقيًا، فنظر إليه: فإذا هو قد حطم أنفه، وشق وجهه لضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة".
من قواعد القتال
وكان مما أنزل الله تعالى من أوليات قواعد القتال قوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فليس للمسلم إلا الإقدام -والله ردؤه- إلا أن يكون مناورًا ينحرف من مكان إلى مكان -يبدل مواقع القتال- أو طالبًا التحيز لطائفة من المقاتلين يستكثر بهم.
ولكن الله قتلهم…
وليعلم المؤمنون أنهم جند الله وأدواته، وأن أيديهم ليست الفاعلة وأن الفعل لله؛ به يبيد أهل الشرك، فهو الذي وفق وهو الذي أعان فأهلك؛ فأنزل: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ) وهو الذي أظفر المؤمنين، ومكنهم من رقاب أهل الشرك وظهورهم، فما كان لأحد أن يفخر بقتل من قتل وإصابة من أصاب، فالله هو الذي استدرج القوم، ومكّن المؤمنين من نواصيهم..
وما رميت إذ رميت
فقد روى ابن كثير قال: قال ابن عباس: رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه يوم بدر، فقال: "يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم.
وذلك ما جاء في قول محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبضة من تراب، فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم في رمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله تعالى شرّف رسوله فيما رمى، فجعل يده ترمي عن الله، فأنزل عليه: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ثم عقّب الله على فضله فيما كان يخبر ويقرر حقًا فيما كان ويكون حتى يتم الله دينه: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)، فما كادوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه بعدها كيدًا إلا وأوهنه الله تعالى إلى أن لقي ربه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم استمر ذلك الوهن للكافرين أمام جند الفتح من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن عمّ الإسلام الآفاق.
إيمان وبطر وكبر
وتتحدث كتب السنن والمغازي والسير، فتروي تفاصيل كثيرة عما دار في بدر عندما احتدم القتال: فهذا عمير بن الحمام يلوك تمرات، وما أن يسمع بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يقاتل مقبلاً غير مدبر حتى يقتل فله الجنة، فيلقى بالتمرات من يده وفمه، ويتقدم فيقاتل فيلقى الله على عهده.
وهذا عبد الرحمن بن عوف يجد نفسه في الصف بين شابين؛ كل يسأله عن أبي جهل عدو الله، ويختال أبو جهل بين الصفوف؛ فيقول ابن عوف: ذاكم صاحبكم! فيتبادله "المعاذان"؛ معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، يتبادلانه بضربتين حتى يثبتاه صريعًا يعالج آخر أنفاسه.
ويدركه عبد الله بن مسعود، فيتقدم ويرقى صدره ليجهز عليه، فيغلبه كبرياء الكفر وهو وشيك الهلاك، فيقول: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم، ويحتزّ عبد الله رأسه ويذهب فيلقيه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتتابع الرماح والسيوف فعلها في القوم، حتى أذل الله أعداءه، فوقعوا بين قتيل وأسير، ويفر من فر هربًا من القيان بدفوفهم حتى يدخلوا مكة خزايا مدحورين