الصيام صبر والتزام
الصيام تدريب على الصبر، فالصوم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- شطر الصبر، والصبر شطر الإيمان، والصبر في جوهره رضاء، فعندما يصبر الإنسان على الصوم فإنه يصوم وهو راضٍ بهذا الصوم، غير متذمر منه ولا حتى في سره، فهو يمتنع عن الطعام والشراب وغيرهما من المفطرات من تلقاء نفسه، يلتزم بذلك من الفجر وحتى الغروب، ولا يحتاج إلى رقيب عليه، وهذا الالتزام بالامتناع عن الطعام والشراب دون مقابل إلا ابتغاء رضوان الله يجعل البقاء دون طعام وشراب هذه الساعات الطويلة أهون بكثير مما لو كان البقاء دون أكل وشرب ناتجًا عن مانع من خارج النفس، كأن يمنعك شخص من الوصول إلى الطعام والشراب؛ ففي هذه الحالة يكون الجوع والعطش أشد، وهذا ما بينتْه الاختبارات النفسية، حيث وجدت أن "الالتزام يغيّر الدافع"، ففي إحدى التجارب حضر الأشخاص الذين ستتم عليهم التجربة دون أن يأكلوا أو يشربوا لعدة ساعات قبل مجيئهم، ثم طلب من بعضهم أن يبقى دون طعام أو شراب فترة أخرى دون أي مقابل مالي أو غير مالي، وذلك بأن يلزموا أنفسهم بذلك، فيكون صومهم التزامًا منهم، وقرارًا اتخذوه بحرية، وإن كان بناءً على طلب من الباحثين، أما باقي الأشخاص المجرب عليهم فلم يطلب منهم الالتزام بالبقاء دون طعام أو شراب، إنما تركوا دون طعام أو شراب، وجعل الأمر يبدو لهم وكأنه غير مقصود، وفي النهاية أجريت على الجميع اختبارات نفسية لمعرفة شدة الجوع والعطش لديهم، فوجد أن الذين التزموا بالامتناع عن الطعام والشراب التزامًا كانوا أقل جوعًا وعطشًا من الذين تمت مماطلتهم بحيث صاموا الساعات نفسها، ولكن دون التزام منهم بذلك، كما تمت معايرة "الحموض الدسمة الحرة" في دمائهم، وهي مواد تزداد في الدم كلما اشتد جوع الإنسان، فوجد أنها كانت أقل ازديادًا عند الذين التزموا بالصيام التزامًا، فالالتزام بالصوم أثّر حتى على رد فعل أجسامهم الفسيولوجي على بقائهم دون طعام أو شراب الساعات الطويلة؛ وفي دراسة أخرى درس العلماء أثر الالتزام على العطش، فوجدوا أن العطش عند من التزم من نفسه بالامتناع عن الماء كان أقلّ حتى في الاختبارات التي تكشف مدى انشغال النفس لا شعوريًا بالعطش، وبالرغبة في الماء.
إن الصبر في الحقيقية التزام ورضاء بالحال التي يضعنا الله فيها، وبالصبر تهون المعاناة وتقلّ، لأن الرضا حتى بالمصيبة يشبه الالتزام بها، كالذي منع نفسه من الطعام والشراب من نفسه، لأنه يريد الصيام لله تعالى، والذي ابتلاه الله بالفقر أو المرض، أو فقد عزيز فصبر، فإنه امتنع عن الشيء الذي حرم منه امتناعًا عن رضا وقناعة، امتناعًا يشبه امتناع الصائم، وإن كان رفضه لهذا الحرمان لا يغيّر شيئًا من الواقع، بخلاف رفض الصائم للصيام؛ إذ يمكن الأكل والشرب، وهذا الامتناع الراضي يكون أقل إيلامًا للنفس، مما لو تلقى المصيبة بتذمر وسخط وغضب.
الصيام تهذيب نفسي
يتفاوت الناس في فضل الله عليهم؛ ففيهم القوي وفيهم الضعيف، وفيهم الغني وفيهم الفقير، وفيهم صاحب الجاه والسلطان، وفيهم الشخص العادي الذي لا سلطان له؛ وعندما يعطي الله من فضله أحدًا أكثر من غيره فإنه قد ينسى أن قدرته وقوته أو غناه أو سلطانه إنما هو فضل من الله، وامتحان واختبار له، أيشكر أم يكفر هذا الفضل، فإذا ما نسي ذلك غرته قدرته وغره ماله، ودعاه ذلك إلى أن يتكبر ويتجبر على الآخرين، ناسيًا قدرة الله عليه، وأن الله هو الجبار، وهو القاهر فوق عباده، وفي رمضان يصوم المؤمن، ويمضي الساعات الطويلة بلا طعام ولا شراب، فيشعر بشيء من الضعف في قوته، ويشعر بالحاجة إلى الطعام والشراب، ويسره أن تغيب الشمس حتى يتمكن من أن يأكل ويشرب من جديد، إن الصائم يستشعر بهذا ضعفه البشري، فيقل اغتراره بقوته، وتتطهر نفسه من نزعة التجبر والعلو في الأرض؛ إذ كيف يتجبر وهو لم يصبر دون طعام وشراب أكثر من ساعات؟. ولعل هذا من الفوائد النفسية الهامة للصيام، لأنه يرجع المغرور إلى الواقع، ويخلصه من عقدة التفوق والعلو التي أفسدت عليه نفسه.
كما أن الصوم بما يترك في نفسية الصائم من إحساس بالضعف والحاجة إلى لقمة طعام، وإلى جرعة ماء، هذا الصوم يجعل للآيات الكريمة، التي وعدت المؤمنين في الجنة الطعام والشراب ضمن ما وعدتهم به من نعيم، ويجعل لها أثرًا كبيرًا في النفس أكبر مما يكون لو أن الإنسان الذي أنعم الله عليه قد أمضى عمره كله دون أن يجوع أو يعطش، فكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى فإن الطعام والشراب نعمة من الله، لا يعرف قدرها إلا من جاع وعطش
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين