لقد بقي العراق المقر الاساسي للديانة اليهودية، حتى بالنسبة ليهود فلسطين. فرغم انتقال الكثير من اليهود الى فلسطين (أرض الميعاد)، إلاّ أنهم بقوا دائماً متعلقين بأرض بابل، لهذا تراهم كانوا ما أن يتعرضوا الى ضائقة في فلسطين، سرعان ما يلجأوا الى العراق، وهنالك وقائع كثيرة تؤكد هذه الحالة. ففي سنة63 ق.م عندما سقطت الدولة المكابية اليهودية في فلسطين على يد الرومان، هاجر الآلاف من اليهود ولاسيما من رجال الدين إلى أرض بابل(9 ). لقد ظل علماء يهود بابل فعّالين حتى في المدارس اليهودية في فلسطين. فهاهو الرابي (أبا عريقا) ينتقل من العراق إلى فلسطين ويؤسّس أكاديمية (سورا) ويذكر عادة بلقبه الشائع (راب) كذلك (صموئيل) الفلكي والطبيب.
لقد ظهرت في بابل جماعة أطلق عليها (سوفريم) وتعني الكتّاب وهم الذين أولوا إهتماماً بكتابة التوراة والاحكام الدينية، ومن أبرزهم الكاتب عزرا الذي جاء الى فلسطين من بابل، في القرن الخامس ق. م ويعتبر أبرز شخصية ظهرت في أوساط اليهود بعد شخصية النبي موسى. إذ قام بتطوير العقيدة اليهودية من خلال استخراج نصوص من كتاب العهد القديم تعنى بمتطلبات المجتمع اليهودي، وكانت خطوته تلك بداية للسنة الشفوية. ثم راج بعد عزرا أسلوب في تفسير وتأويل النصوص الدينية يسمى (مدراش) ومعناه (البحث والتتبع)، لأن العلماء تتبعوا على ضوئه المعاني الكامنة في التوراة، بغية وضع الحلول لجميع المسائل والمستجدات.
وكانت هناك مجموعتان من تلك الخلاصات، إحداها تكونت في فلسطين وتسمى تلمود أورشليم، والأخرى كتبت في العراق وتسمى التلمود البابلي، وهو أكثر استفاضة وأهمية. وبينما انتهى التلمود الفلسطيني بحدود عام 400 ق.م.، فإن التلمود البابلي قد ضم إضافات إلى نحو عام 500 م. إن التلمود البابلي ثلاثة أضعاف التلمود الفلسطيني، حيث تبلغ صفحاته أكثر من خمسة آلاف، وقد ترجم الى العديد من اللغات(10).
إذن يعتبر التلمود أشبه بدائرة معارف ضخمة بكل ما يتعلق بأسس الديانة اليهودية، وهو المصدر الاساسي للتشريع اليهودي. وبما أنه اكتمل بعد أنتشار المسيحية، فأنه يتضمن الطعن بالسيد عيسى المسيح، لهذا رفضه المسيحيون، وبسببه عانى اليهود في اوربا من الاضطهاد، وكانت عملية حرق التلمود أمر شائع لدى الكاثوليك.
اليهودية والصراع المصري العراقي
بما ان بلاد الشام عموماً وفلسطين خصوصاً كانت ساحة للصراع بين القوتين المتنافستين العراقية والمصرية، فأن التوراة تأثرت كثيراً بهذه المنافسة. يلاحظ أنه في الأجزاء البابلية من العهد القديم تلك الحكايات التي لا تخلوا من (النفاق) للعراقيين ضد خصومهم المصريين: قصة ابراهيم وسارة مع الفرعون، ثم يوسف وزليخة، ثم موسى والفرعون. بل إن قصة نوح مع ولديه سام وحام وخلق الجنسين الابيض والأسود، يمكن وضعها في هذا السياق العنصري ضد المصريين (أبناء حام!). من أكثر الأمثلة طرافة على رغبة هؤلاء المنفيين الفلسطينيين العبرانيين للتقرب من العراقيين، انهم ابتدعوا فكرة جدهم (ابراهيم) الذي نزح من (أور الكلدانيين) وكذلك زوجته سارة من نفس الأصل. ولكي يميزوا أنفسهم عن (القبائل البدوية) رغم انهم هم أنفسهم من أصول بدوية. قالوا بحكاية اسماعيل وأمه هاجر الجارية المصرية!! وللتعويض عن حالة الشعور بالضعف التي ظل يعاني منها هؤلاء المنفيين أمام أهل بابل، فأن التوراة لا تخلو من الحكايات البطولية والمفاخر الاسطورية : بطولات داود وشمشون وامبراطورية سليمان ومغامرته الشهيرة مع بلقيس.
تحول اليهودية الى ديانة متميزة
من المعلوم انه حتى فترة السبي كانت تسمية (اليهود) خالية من المعنى الديني، إذ تعني (سكان يهودا أورشليم) جنوب فلسطين ومع الزمن شملت أيضاً سكان (اسرائيل السامرة) شمال فلسطين. لهذا فأن (يهود) بابل هم أول من بدأ بإضفاء الطابع العقائدي الديني على جاليتهم. في بابل اتخذت تسمية (اليهودية) معناً دينياً. وقد احتاجت عملية التأسيس الديني الاولى حوالي أربعة قرون (بين القرنين السابع والثالث ق.م) تمثلت بالتدوين التوراتي والجدال والتنظير البطيء. في القرن الثالث ق.م بدأت تسمية (اليهود) تتخذ معناً دينياً وإسماً لطائفة تمتلك عقيدة وكتاباً مقدساً أسمه (التوراة). أما أول من أشار بصورة رسمية وكتابية إلى (عقيدة اليهود) باليهودية هو المؤرخ اليهودي الفلسطيني (يوسيفوس فلافيوس القرن الاول م) في الاسكندرية، وذلك بالمقارنة مع (الهيلينية): ((عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة هيلاس)). فالمصطلح إذن بدء إسماً أقوامياً جغرافياً ثم بالتدريج في بابل اتخذ مضموناً دينياً(11).
يهود بابل ينشرون اليهودية في العالم
عام 334 ق.م تمكن الإسكندر المقدوني ( 356-323 ق.م) من القضاء على الدولة الايرانية، والسيطرة على العراق وعموم الشرق. وقد اختار (بابل) لتكون عاصمة امبراطوريته العالمية، لكن حلمه لم يتحقق حيث مات في بابل، المدينة التي كان يجلها. في هذه الحقبة اليونانية بدأت تبرز مراكز ثقافية يهودية جديدة منافسة لدور بابل، وبالذات (الاسكندرية) في مصر.
فقد نقل الاسكندر الكثير من يهود بابل وفلسطين الى مدنه الجديدة التي كوَنَّها، ومنها بالذات (مدينة الاسكندرية)، التي تحولت الى مركزاً أساسياً للثقافة اليونانية، وتحت ظلها انتعشت كذلك الثقافة اليهودية. كذلك قام الملك (أنطيوخس الثالث) (323 - 187 ق.م) خليفة الاسكندر، بنقل ألفي أسرة يهودية عراقية مع أجهزتها الحربية إلى ليديا وفريجيا في آسيا الصغرى لتأسيس حامية منهم هناك موالية لحكم السلوقيين. ومن هؤلاء بدأت الجاليات اليهودية تنتشر في اليونان وعموم البحر المتوسط.
يمكن القول إن (الاسكندرية) قد نقلت الديانة اليهودية الى المرحلة الرابعة المكملة للمراحل الثلاث السابقة. في الاسكندرية برزت شخصيات يهودية استوعبت جيداً الثقافة اليونانية ولعبت دوراً كبيراً في التأثير على الثقافة اليهودية وترجمة كتبها الى اليونانية، أمثال الفيلسوف (فيلون الاسكندري القرن الاول الميلادي) الذي أدخل الى اليهودية (العرفان الغنوص) الاسكندري المسمى بـ (الافلاطونية الجديدة). كذلك المؤرخ الكبير(يوسيفوس فلافيوس القرن الاول م)) وهو يهودي فلسطيني عاش في الاسكندرية وكتب تاريخ اليهود وعرف به عالمياً. كذلك قامت النخبة اليهودية هنالك في القرن الثالث ق.م، بتكوين لجنة من سبعين شخصية لترجمة التوراة الى اليونانية، واستغرق هذا المشروع حوالي ثلاث قرون، حتى القرن الميلادي الاول، وسميت (الترجمة السبعينية) التي حولت التوراة الى مصدر ثقافي عالمي.
سليم مطر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع(موسوعة اللغات العراقية) في موقعنا:
www.mesopot.comالهوامش والمصادر
1ـ راجع مثلا: من سومر الى التوراة / ص192/ كذلك: موسى والتوحيد / فرويد / ص33
- Jean BOTTERO – Naissance De Dieu- Folio-Paris2007/P9
2) حول اتفاق الباحثين على كتابة التوراة في بابل، راجع: موسوعة وكيبيديا باللغات العربية والفرنسية والانكليزية (اليهودية)./ كذلك: فراس السواح / آرام ودمشق واسرائيل / ص 10 / كذلك دراسات منشورة في الانترنت، لكل من : الدكتور زغلول النجار / ود. علي حليل / اليهودية بين النظرية والتطبيق مقتطفات من التلمود والتّوراة / منشورا ت اتحاد الكتاب العرب 1997/ كذلك باللغة الفرنسية:
Lhistoire de la Bible : J. H. Alexander La Maison de la Bible
Sur les traces de la Bible : Dr W.J. Ouweneel La Maison de la Bible
3) تاريخ نقد العهد القديم / زالمان شازار / ص 93
4) فيليب حتي / تاريخ سوريا / ج2 / ص242 ـ245
5) كان يوم السبت لدى العراقيين اسمه (شباتم) وهو (يوم نواح لبيبي) أي (يوم راحة القلوب) / طالع: دراسات في التاريخ / فريحة / ص114
6) للاطلاع على تفاصيل الأثر البابلي في التوراة، راجع: من سومر الى التوراة / الفصل الرابع)/ كذلك: أثر الكتابات البابلية في المدونات التوراتية / الاب سهيل قاشا / كذلك : كتاب المؤرخ الاسرائيلي : زلمان شازار / تاريخ العهد القديم / القسم الثاني.
7) الاديان الحية / أديب صعب / ص132
عزرا 10 : 3 5، 10 وما بعده / كذلك نحميا 13 : 35 / كذلك الاديان الحية ص133
9) أنظر الموسوعة الفلسطينية / الأطماع الصهيونية في القدس/ تأليف عبد العزيز محمد عوض/ القسم الثاني/ المجلد السادس/ الطبعة الأولى بيروت 1990 ص860.
10) الترجمة الانكليزية تبلغ في (18) مجلداً طبعة لندن.
11) راجع: حتي / ج2 / م1 ص244 / كذلك الموسوعات العالمية: اليهودية.
جنيف