تدل جميع الوثائق الآثارية والتاريخية التي تم العثور عليها في الشرق الاوسط، على ان اليهود واليهودية قبل السبي البابلي (القرن السابع ق.م) لم يرد لهم إلاّ نتف عابرة وغامضة لا توحي بأية أهمية أو دور واضح. فليس هنالك أية إشارة تدل على وجود ديانة ما أسمها (اليهودية). وكل ما تذكره المصادر هي إشارات عابرة عن دويلات صغيرة (مشيخات) في فلسطين إسمها (إسرائيل) و (يهودا). يعني مثل جميع الدويلات التابعة التي تأسست في المنطقة عبر التاريخ، مثل مواب وادوم والبتراء والحضر وبصرى والحيرة، وغيرها.(1)
ولم يدخل اليهود التاريخ السياسي والديني، إلاّ بعد السبي البابلي ومن خلال الدور الفعّال والحاسم للجالية اليهودية في بابل، بحيث يصح إن تأسيس اليهودية كديانة متكاملة تم في بابل، وان اليهودية تعتبر ديانة عراقية أولاً قبل أن تأخذ بعدها العرفاني الروحاني العالمي. يمكن تحديد الدور العراقي في تأسيس اليهودية بالمراحل الثلاثة التالية:
أولاً : تدوين الكتاب المقدس في بابل // ثانياً : قيام يهود بابل بنقل اليهودية الى فلسطين // ثالثاً : كتابة التلمود البابلي.
أولاً : تدوين الكتاب المقدس في بابل
إن (الكتاب المقدس العهد القديم) يتكون من قسمين: (التوراة) وتضم الاسفار (أي الكتب أو النصوص) الخمسة الاولى التي تنسب الى النبي موسى. ثم اسفار الانبياء، وهي كتب أنبياء اليهود، ونصوص تاريخية وتسبيحية متنوعة، مثل (المزامير الزبور) داود. ويدعي اليهود ان هذه الاسفار قد كتبت بالعبرية (فرع من الكنعانية الفلسطينية)، لكن الوثائق التاريخية تميل الى انها قد كتبت في بابل باللغة الآرامية الشرقية (العراقية).
يتفق غالبية الباحثين في تاريخ الكتاب المقدس، إنه قد كتب من قبل اليهود أثناء سبيهم في (بابل) بين القرن السابع حتى القرن الثالث ق.م(2). أو في أحسن الاحوال، انهم أعادوا كتابته بالاعتماد على ما ورثوه من لفافات متنوعة المصادر والتواريخ والحاوية على معلومات متناقضة ومتكررة، بالاضافة الى ما حفظته ذاكرتهم. ان هذا التناقض والتكرار في أخبار وحكايات التوراة هو الذي جلب انتباه الباحثين الاوربيين منذ القرن السادس عشر، بل إن أول من أعلن شَكَّه بأن كاتب التوراة هو (موسى)، الفيلسوف اليهودي (سبينوزا)(3). لقد دونت باللغة الآرامية العراقية، وبالاعتماد على المصدرين التاليين:
1- الميراث الشفاهي الفلسطيني المحفوظ في ذاكرة العبرانيين من حكايات وأساطير ومعتقدات، جلبوها معهم من حياتهم السابقة في فلسطين. وهذا التراث الشعبي، حاله حال أي تراث شفاهي فيه الكثير من الصحيح والكثير الكثير من الخيالي والمضخم. ولنا مثال على ذلك السِيَرْ الشعبية العربية عن عنتر والبسوس وبني هلال، التي أخذت أحداثاً وشخصيات تاريخية حقيقية ولكن ضَخَمَتْها أضعاف وأضعاف وأعادة ترتيبها زمانياً ومكانياً. وهذا يفسر ما جرى مع التاريخ اليهودي الفلسطيني الوارد في التوراة عن خوارق النبي موسى وبطولات داود والملك سليمان الذي حكم الانس والجن، وغيرها من المآثر المضخمة والمتخيلة، والتي لم يتم العثور أي سند آثاري ولا تاريخي يؤكد صحتها. فالتوراة لها قيمة أدبية ودينية وتراثية، ولكنها لا يمكن أبداً أن تصلح كسند تاريخي.
2- الثقافة البابلية العراقية بجميع مخزونها العريق الديني والادبي والعلمي، التي شَكَلَّتْ المصدر الثاني الكبير أو ألمصهر الذي أعاد فيه اليهود صياغة ميراثهم الشفاهي وتجديده شكلاً ومضموناً. وبسبب تأثير الثقافة البابلية عليهم ونشوء نخبة متعلمة قرر اليهود حينها كتابة تاريخهم الشعبي وعقيدتهم الدينية الشفاهية، في كتاب أسموه (التوراة، أي التراث) وهذه التسمية بحد ذاتها تدلنا على الغاية من هذا الكتاب، أي (حفظ تراث الاسلاف)(4).
وهذا يفسر إحتوء التوراة على الكثير من الميراثات العقائدية والثقافية العراقية، بحيث يصح القول ان التوراة أقرب ما يكون كتاباً بابلياً. إذ يتفق الباحثون على اقتباس التوراة للأمور التالية من الميراث العراقي القديم:
اسطورة خلق الكون والانسان / جنة عدن والفردوس المفقود / الطوفان ونوح / قصة هابيل وقابيل / أصل الانسان واللغات وبرج بابل / طفولة سرجون وطفولة موسى / محاربة قوى الشر / غضب الرب وانزال الكوارث / العهد بين الرب والعبد / قوانين حمورابي والوصايا العشر / البكاء على تموز وانتظار المُخَلّصْ / أناشيد الزواج المقدس والمزامير ونشيد الانشاد / صبر أيوب / وغيرها من الحكايات والرموز التي لا تعَّد. أما من الناحية الدينية فأنهم اقتبسوا الكثير من الميراث العراقي ومعتقداته الدينية: اقتبسوا يوم (السبت)(5) الذي كان يوم عطلة (سبوت وراحة) ونهاية الأسبوع لدى العراقيين. والطقوس والأزياء (6). أما عادة الختان فقد جلبها معهم اليهود من فلسطين وربما هي بتأثير مصري.
ثانياً : يهود بابل يعيدون تشكيل اليهودية في فلسطين
تمكن الفرس من اسقاط (بابل) سنة 539 ق.م التي كانت آخر دولة عراقية في العصر القديم. أصدر الملك قورش مرسوماً بدعوة اليهود وتشجيعهم من أجل الرجوع إلى ديارهم وإعادة بناء الهيكل في أورشليم، لكن غالبية اليهود رفضوا العودة، بل فقط فريق منهم بقيادة (زوربابيل) حفيد (يهوياقيم) ملك يهودا الأخير. هكذا جاءت القافلة الأولى الى فلسطين مؤلفة من عدة عشرات الآلاف من اليهود ومعهم الآلاف من عبيد بابل من غير اليهود. إن رفض الغالبية هجر بابل يعود الى أنهم كانوا يعيشون حياة رخاء، وخصوصاً الأثرياء منهم وأصحاب المناصب. كما إن غالبية الجيل الأول من السبي قد توفوا، حيث مضت أكثر من ستين عام على السبي، ولم يكن الجيل الثاني المولود في العراق يشعر بالحنين إلى فلسطين.
عزرا البابلي منجز الدين اليهودي
كان اليهود العائدون الى فلسطين، متعصبون حتى ضد إخوانهم الذين بقوا في فلسطين، بحيث عاملوهم باحتقار باعتبارهم منحرفين لأنهم قد تزاوجوا مع إخوتهم الكنعانيين(7). ولكن رغم ذلك التعصب والحماس، فأن مشروع إعادة بناء الهيكل ما كان ناجحاً، حتى بعد مرور أكثر من قرن على العودة. بعد ذلك قام (نحميا وعزرا) بمحاولة ثانية لترتيب حال اليهود هناك. في عام (444 ق.م ) رحلا من بابل الى فلسطين وقد اصطحبا معهما ألف وسبعمائة يهودي بابلي. لقد تمكن (عزرا) بعد جهود كبيرة من إنشاء تنظيم ديني صارم أجبر يهود فلسطين بالقسم على التمسك بعهد موسى، ورفض تزويج بناتهم لغير اليهود، بل حتى التخلي عن زوجاتهم غير اليهوديات واعتبار نسلهم أبناء زنا. وصار الكهنة هم الحكام الآمرين. إن هذه المجموعة البابلية بقيادة عزرا هي التي قامت بكتابة ما سمي فيما بعد بـ (التلمود الفلسطيني). ومنذ ذلك الحين صارت اليهودية ديانة محدودة ومتميزة، تحمل صفات الانغلاق العرقي والديني. وأمست الطقوس الشكلية مقدسة وصارمة مثل يوم السبت والصلاة في هيكل أورشليم والاحتفال بالاعياد والمناسبات اليهودية المعروفة(
.
ثالثاً : كتابة التلمود الفلسطيني والبابلي
التلمود كتاب ضخم جمعت فيه أحاديث اليهود وأحكامهم وفقههم وكل كتاباتهم التي أعقبت انجاز التوراة، خلال حوالي ألف عام، أي من القرن الخامس (ق.م) حتى القرن الخامس الميلادي. إن كلمة (التلمود) تعني (التلمذة والتعلم).