إن المتتبع للقنوات الفضائية العربية يجد تنوعا كبيرا، فمنها القنوات الرسمية الوطنية التابعة لمختلف الدول العربية، ومنها المستقلة. كما يمكن تصنيف القنوات إلى سياسية، أو تجارية موجهة للإشهار، أو مهتمة بالرقص والغناء، أو بالمسلسلات العربية والمدبلجة، أو الأفلام، أو الثقافة، أو برامج الأطفال، أو الرياضة أو البرامج الدينية. كما يمكن تصنيفها من حيث أهدافها وطبيعة برامجها إلى قنوات للتوعية، وقنوات ثقافية، وأخرى للّهو والتخدير.
إن ظهور القنوات الفضائية العربية قلب أوضاع الساحة الإعلامية، وأدى إلى فقدان بعض الدول مثل مصر هيمنتها على الإعلام العربي الذي كانت رائدة له، وفقدت عددا كبيرا من المشاهدين، الذين تحوّلوا إلى قنوات فضائية جديدة مستقلة. فمن مزايا العولمة وجود البدائل في كل شيء، بما في ذلك المجال الإعلامي.
لقد عانى المواطن العربي طويلا من هيمنة الإعلام الفضائي الغربي على الساحة الإعلامية، ومن نوعية الأخبار والتحليلات المقدمة، والتي تعكس وجهة نظر الدول الإستعمارية. فهي تقدم العرب والمسلمين وفق نمطية يحملونها عنهم، فيها الكثير من الإهانة والإستهزاء، مما ينم عن حقدهم أو جهلهم بواقع الحضارة العربية الإسلامية.
وقد استبشر المشاهدون خيرا بتوسع الإعلام المرئي وظهور قنوات فضائية متعددة ومتنوعة، حيث أصبح المشاهد العربي يلتجئ إليها لمتابعة الأحداث السياسية العربية بتنوعها وتباينها. بل أنه أصبح ينتقل بين القنوات، مما يسمح له بتقييم أداءاتها وميولها وخطوطها السياسية.
فما يريده المواطن العربي من أي قناة فضائية، تقديمها للأخبار والحقائق بطريقة موضوعية كما هي، وليس كما تريد الحكومات الرسمية العربية، أو الجهات الغربية إبرازها. كما يريد مشاهدة برامج وتعليقات تعكس الواقع وتطرح اهتمامات وانشغالات المجتمعات العربية، وتبرز سلبياتها وإيجابياتها. كما تقادم الرأي الآخر لما تبثه القنوات المعادية، وتدافع عن الفكر العربي الإسلامي، وعن الشعوب المظلومة في فلسطين والعراق والصومال، وغيرها من قضايا التحرّر والديمقراطية وحقوق الإنسان. وبذلك تزيد من وعي المواطن العربي بقضاياه المصيرية.
لقد عرف الجزء الأخير من القرن ظهور الفضائيات الإخبارية، وأول قناة إخبارية متخصصة كانت قناة 'س. ن. ن.' (C.BN.N.) الأمريكية، تبعتها قنوات أخرى في مختلف مناطق العالم. أما في المنطقة العربية، فكانت قناة الجزيرة من أولى القنوات الإخبارية المستقلة، تبعتها قنوات أخرى حاولت تقليدها.
إن ظهور قناة 'الجزيرة'، وما تتميز به من مهنية مقدمي البرامج، وإمكانياتها الهائلة، وموضوعيتها واعتمادها خطا عربيا غير مقيد بدولة المقر، جعلها تستقطب الأضواء. فرغم أن القناة قطرية وبدعم قطري، إلا أن برامجها عربية وعالمية، وهي تغطي أحداث دولة قطر كما تغطي أحداث أي دولة عربية أخرى. وهكذا نجد قناة الجزيرة إلى جانب المقاومة في غزة ولبنان والعراق، وإلى جانب القضايا العربية والإسلامية في العالم، وهي تسعى إلى تقديم الأخبار بطريقة موضوعية دون انحياز.
لهذا فإن أي مشاهد عربي، مدمن على متابعة الأخبار والتحليلات السياسية، يجد ارتياحا من خلال مشاهدته لهذه القناة، وهي تعبر عن هموم ومشاكل ومصاعب المواطن العربي. كما تدخل ضمن القنوات المساهمة في تصوير الواقع العربي كما هو، بمشاكله وصعوباته وتعقيداته السياسية والإجتماعية والثقافية.
إلى جانب قناة الجزيرة، نجد قناة 'العربية'، والتي بدأت عربية الإتجاه، كما يدل على ذلك اسمها، إلا أنها انحرفت وتخلى عنها الكثير من مشاهديها، ذلك أنها لم تتخلص من الخط السياسي الرسمي للملكة السعودية. فأصبحت تركز على الأحداث السعودية والخليجية، وتتبنى أفكارهم السياسية. كما أنها تعكس الخط السياسي السعودي، فوقفت ضدّ إيران في الأحداث التي عاشتها، سواء في صراعها مع الغرب، أو الأحداث الداخلية عقب الإنتخابات الرئاسية، والصراع بين المحافظين والإصلاحيين.
أما في القضايا العربية والصراع العربي الإسرائيلي، فنجد قناة العربية وقفت مع السلطة الفلسطينية ضد حركة حماس، وإلى جانب مصر في كل مواقفها ومنها حصار قطاع غزة، ووقوفها ضد حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان، - ومن يقف ضد المقاومة فهو ضمنيا مع إسرائيل -، ووقوفها مع الأكثرية ضد المعارضة في لبنان، ووقوفها ضد سوريا. كما أنها وقفت دوما مع حكومات العراق المتتالية تحت الإحتلال الأمريكي، ضد المقاومة العراقية التي ترى أنها إرهابا. وهكذا فإن مواقف قناة 'العربية' وخطها السياسي شديد الإرتباط بالمواقف الأمريكية والغربية عموما. وبهذا فهي، وكما يلاحظ كثير من المثقفين العرب، فإن قناة 'العربية' تجانب الموضوعية في غالبية الأحيان.
إلى جانب ذلك يرى المشاهد ضعف مهنية بعض مقدمي البرامج، وغياب الإبتسامة المعتادة عند مقدمي القنوات الناجحة. خاصة وأن القناة خصصت برامج لمحاربة الإرهاب، وكأنها تدفع بذلك تهمة رعاية الإرهاب التي يحاول الغرب إلحاقها بالمملكة السعودية. وما يلفت الإنتباه كذلك، قلة مقدمات البرامج المحجبات في قناة 'العربية'، بطريقة تجعل المشاهد يتساءل هل حقيقة أن القناة تابعة لدولة محافظة، كالسعودية.
وما تشترك فيه كلّ من قناتي الجزيرة والعربية هو تسابقهما لنقل أخبار الساسة الأمريكيين والإسرائيليين والمساهمة في التطبيع الإعلامي مع إسرائيل. فالقناتان توقفان برامجهما العادية للإنتقال مباشرة إلى تل أبيب، أو واشنطن، أو أي مكان آخر لنقل بعض التصريحات، وهو ما لا تفعله أي من القناتين عندما يتعلق الأمر بتصريحات وندوات صحفية لقادة عرب من رؤساء وملوك وأمراء.
رغم ما تعانيه غالبية القنوات الأرضية والفضائية من نقائص لا تخلو منها أي قناة، ألا أن للقنوات الإخبارية دورا تثقيفيا يساهم في توعية المجتمع بقضاياه، وهي مرتبطة بالواقع الأليم للأمة العربية.
إلا أن ما يلفت الإنتباه في الساحة الإعلامية العربية، هذا العدد الهائل من القنوات الفنية والغنائية، في مجتمعات متخلفة تعاني من نقص في كلّ شيء. كما أن هناك شركات إعلامية كبرى مختصة في تنظيم الحفلات والمسابقات الغنائية وملكات الجمال، وكأن ما ينقص هذه الأمة هو الفن والغناء.
فلما نشاهد مناظر القتل والتدمير الذي تمارسه إسرائيل على غزة، أو حربها على لبنان أو الواقع المرّ الذي يعاني منه العراقيون، ونتحوّل إلى قنوات نجدها غارقة في الرقص والغناء، ندرك أن هذه الأمة بقادتها ميؤوس منها، أو أن هناك ضغوطا قوية تمارس على بعض الدول العربية، لإنشاء هذه القنوات والإنفاق عليها من أجل إشغال الشعوب العربية عن قضاياها المصيرية وإلهائها عن واقعها، وشغلها عما تواجهه من تحديات. كما تعمل على إبعاد هذه الأمة عن عقيدتها وقيمها الأخلاقية وثقافتها المحافظة.
إن كان المشاهد العربي عادة ما يتجنب مشاهدة القنوات الغربية، اتقاء لسمومها، إلا أن نفس الأفكار ونفس الضغوط ونفس السموم تصل إلى المواطن مترجمة عن طريق القنوات العربية. وقد أصبحت هذه الأخيرة متخصصة في اقتناص الأخبار السيئة في الوطن العربي، ونادرا ما تلتفت إلى أخبار سارة ترفع بها معنويات المواطنين. وبذلك أصبحت مصدرا للإحباط وزرع الهزيمة واليأس، عوض التحفيز على المقاومة والصمود.
فيوميا تصدر تهديدات لإحدى الدول العربية والإسلامية، يتداول عليها مختلف المسؤولين الغربيين، فيوصلها الإعلام العربي إلى المجتمع المحبط وإلى المسؤولين المنهكين بالمشاكل التي تعرفها بلدانهم. وهكذا مرّ وقت كنا نسمع فيه يوميا تهديدات ضد صدام حسين، تتلقفها غالبية القنوات العربية وتبثها لعدة مرات في اليوم ولأيام متتالية، وكأنها تقوم بمهمة إيصال هذه التهديدات والأخبار السيئة والإستفزازية إلى المشاهد العربي. نفس الشيء تم مع دول أخرى، من تهديدات وتصريحات معادية لسوريا والسودان وقادة المقاومة في لبنان وغزة والبقية تأتي. وبهذا يساهم الإعلام العربي في الضغط على المواطنين والساسة العرب والمثقفين الذين يحملون هموم هذه الأمة، وهي خدمة مجانية يقدمها الإعلام العربي، في إطار الدعاية والحرب النفسية الممارسة على المشاهد العربي.
وقد أصبح المشاهد العربي موضع اهتمام القوى الأجنبية، وهكذا ظهرت قنوات سعت إلى كسبه ونيل ثقته، ومن هذه القنوات، نجد قناة 'الحرّة' الأمريكية وقناة 'العالم' الإيرانية، وقنوات أخرى فرنسية وبريطانية وروسية، إضافة إلى كثير من الفضائيات العربية المستقلة، أو أنها تدعي ذلك. مع ذلك فرضت الفضائيات العربية نفسها إلى حد كبير، وخاصة قناة 'الجزيرة'، في حين فشلت القنوات الأجنبية رغم إمكانياتها الهائلة المسخرة.
إن الإعلام أداة فعالة للتوعية والتغيير. لهذا نريد القنوات العربية الإخبارية أن لا تكون أداة دعائية لبعض الدول، مقيدة بخطها السياسي. بل نحن في أمس الحاجة إلى قنوات حرة مستقلة تفضح التجاوزات أينما كانت ومن أي جهة صدرت. كما نريدها أن تكون إلى جانب القضايا العادلة لهذه الأمة تدافع عن قضاياها وهويتها وحضارتها وثقافتها، وتبرز إيجابياتها وتنبه إلى سلبياتها. كما تقف إلى جانب الشعوب المقهورة لتوعيتها بقضاياها والدفاع عن مصالحها إعلاميا.
إن المشاهد العربي وصل إلى مستوى من الوعي يسمح له باختيار القنوات التي يشاهدها، وعلى كل قناة أن تعرف آراء مشاهديها والإصغاء إليها وتقييم ممارساتها، حتى تبقى أكثر ارتباطا بقضايا المشاهدين وانشغالاتهم.
وهي استنتاجات مشاهد مدمن على متابعة مجموعة من القنوات الفضائية، لعله يساهم بذلك في إبراز بعض من إيجابياتها ويلفت الإنتباه إلى بعض من سلبياتها، وهو يتمنى لها النجاح في خدمة قضايا أمتنا، في عهد احتدم فيه الصراع الإعلامي في العالم.