البحر في التراث العربي

بقلم: صلاح الشهاوي

يدعيالبعض أن الشعر العربي القديم الجاهلي والأموي والعباسي حتى الأندلسي لايكاد القارئ يجد ذكر البحر إلا في الأوزان التي تتألف منها أبيات الشعرالعربي فالبحر هو أساس الأوزان ولكل بحر اسم خاص والبحور ستة عشر بحرا ومعذلك لا يعثر قارئ الشعر العربي القديم أو أي نتاج عربي آخر على أي بحرمادام المقصود بالبحر الأخدود الجيولوجي الطويل الممتلئ بالماء المالحالأجاج؟)، وقد تساءلوا أيضا: (أنى لبدو الصحراء أن يصفوا البحر الجيولوجيالطويل الممتلئ بالماء المالح الأجاج وقد تساءلوا أيضا (أنى لبدو الصحراءأن يصفوا البحر وهم في بحر من الرمال أمواجه الكثبان والسراب؟) (وأنىلشاعر بدوي أن يصف سفينة وهو لا سفينة في حياته سوى الناقة سفينةالصحراء؟)... ولكنا سندهش حين نتعرف على بعض الشواهد البحرية الملاحية فيالتراث العربي والإسلامي (الشعر الجاهلي والقرآن) فضلا عن عصور الازدهارالعربي: الأموي - العباسي - الأندلسي... وسوف نستنتج أنه ما أتينا منالعلم بهذا التراث العظيم إلا قليلا وأن كثيرا من أحكامنا عليه ناقصةالاستقراء.

البحر واللغة

جاء في لسان العرب: البحر: الماء الكثير، ملحاً كان أو عذبا، وماء بحر ملح قل أو كثر. قال نصيب:
وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني
إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
وقال ابن سيدة: كل نهر عظيم بحر، وقال الزجاج: كل نهر لا ينقطع ماؤه فهو بحر.
وسمي البحر بحرا: لاستبحاره وهو انبساطه وسعته وقالوا: استبحر فلان في العلم، وسمي ابن عباس (بحرا) لسعة علمه.
ويقال:سمي بحراً لأنه شق في الأرض شقا وجعل ذلك الشق لمائه قرار. والبحر في كلامالعرب الشق، وفي حديث عبدالمطلب وحفر زمزم: ثم بحرها بحرا: أي شقها شقاووسعها حتى لا تنزلق، ومنها قيل للناقة التي كانوا يشقون في أذنيها شقا:بَحِيرة.

البحر في الشعر الجاهلي

نجدأن الشعر الجاهلي مليء بأسماء كثيرة للسفن مثل: الغسانية والعدوليةوالخلية والقرواء والبوص وغير ذلك سواء في حديث مباشر عنها أو في معرضتشبيه الجمل وهو (سفينة الصحراء) ب(سفينة البحر) أو في أغراض مختلفة، وهلتُذكر السفن الا مع البحر؟
يقول طرفة بن العبدفي معلقته -المعروف أن طرفة كان على صلة وثيقة بالبحرين والحيرة- وهو يصفالمراكب الكثيرة وتمايلها في البحر مع الموج:
كأن حدوج المالكية غدوة
خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
عدولية أو من سفين ابن يامن
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
النواصف:المكان الرحب الواسع، دد: اسم موضع، وابن يامن: ملاح عربي من سكان البحرينمهر في صناعة السفن قبل الإسلام، والعدولية: سفينة منسوبة إلى شخص أسمهعدولي أو هي قرية في البحرين كما ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي، ثميصف طرفة مقدم السفينة (حيزومها) وهو يشق البحر بسهولة ويسر كما يقسماللاعبون الصغار التراب الى قسمين بحثا عن خبيئة دسوها في التراب ويقولاللاعب -منهم ويسمى (المفايل) واللعبة: المفايلة-: في أي قسمين خبأت؟ يقولطرفة:
يشق عباب الماء حيزومها بها
كما قسم الترابَ المفايلُ باليد
ومنالمأثور الشائع أن الجمل سفينة الصحراء لهذا نجد الشاعر الجاهلي يوحد فيوصفه الفني بين سفينة الصحراء (الناقة) وسفينة البحر فهذه تشق الرمال فيسيرها وتلك تشق البحر في جريها، يقول شامة بن عمرو في وصف ناقته مشبهاإياها بسفينة مشحونة تغذ في الإبحار فهي تجفل أي (تسرع) ويذكر القلع أيالأشرعة فيقول:
وإن أدبرت قلت مشحونة
أطاع لها الريح قلعا جفولا
وفيديوان الشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم الأسدى قصيدة رائعة يصف فيها رحلةبحرية له في سفينة ويصف السفينة بدقة ومشاعر الخوف التي انتابته ويصفحمولتها فيقول:
معبدة السقائف ذات دسر
مضبرة جوانبها رداح
إذا ركبت بصاحبها خليجا
تذكر ما لديه من جناح
يمر الموج تحت مشجرات
يلين الماء بالخشب الصحاح
ونحن على جوانبها قعود
نغض الطرف كالإبل القماح
فقد أوقرن من قسط ورندٍ
ومن مسكٍ أحمّ ومن سلاح
فطابت ريحهن وهن جون
جآجئهن في لجج ملاح
فالسفينة(مضبرة الجوانب) أي ألواحها مجتمعة لا خروج فيها وهي مطلية الألواح بالقير(معبدة السقائف) محكمة الدسار (ذات دسر) وهي خيوط من ليف تشدّ به ألواحالسفينة مع المسامير، والراكب فيها يتذكر ما عليه من إثم وذنوب وهو في هذهالمحنة وتجري هذه السفن (المشجرات) فوق الموج بأخشابها القوية الصحيحةوالركاب فيها قعود لا يجرؤون على النظر إلى الموج خوفا من غوائله مثلالإبل تغض من أبصارها عند الحوض وترفع رأسها ولا تشرب من خوف أو علة أخرى(الإبل القماح). والسفينة المحملة بالقسط وهو عود هندي يجعل في البخوروالدواء وهناك أيضا المسك الأسود (الأحمر) والسلاح. ولولا أن عرب الجاهليةوالشعراء منهم خاصة على علم ومعرفة بالبحر ما اتخذوه وسيلة للتشبيه ولمابالغ امرؤ القيس في وصف الطور النفسي لحالة اختناقه من الحزن في الليلبصورة الاختناق تحت موج البحر.
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فهويريد أن يصور لنا دقة إحساسه بالحزن وينقل للسامع مدى الشعور بالاختناقالذي يعانيه فلا يجد أروع تأثيراً من ذلك المارد المخيف الرابض على تخومصحراء العرب (البحر) ويقول عمرو بن كلثوم:
ملأنا البر حتى ضاق فينا
وماء البحر نملأه سفينا
كما يقول الشاعر العربي القديم:
فلو تَفِلَتْ في البحر والبحر مالح
لعاد أجاج البحر من ريقها عذباً
إنوصف البحر في الشعر العربي الجاهلي غرض مستقل بذاته من أغراض هذا الشعرالعظيم وعلى السادة الذين ينكرون ذلك قراءة دواوين الشعر العربي القديم.

البحر في القرآن الكريم:

ليسأوثق من القرآن في الحديث عن معرفة العرب بالبحر والسفن والصيد والملاحةفهناك ثمان وعشرون آية كريمة في سور مختلفة تتعلق بالبحر والسفن (الفلك)والملاحة والصيد واستخراج اللؤلؤ والمرجان، وقد أكد القرآن الكريم في عدةآيات على أهمية البحر ومنافعه للبشر وعلى الخيرات الوفيرة التي وهبها اللهللإنسان فيه. وحث القرآن الكريم المسلمين على استغلال نعم البحروالاستفادة منها، فعندما يركب المسلم البحر يضع نصب عينيه الآية (قالاركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي غفور رحيم) البحر في التراث العربي BRAKET_R

هود آية 14 البحر في التراث العربي BRAKET_L

ونصت عدة آيات من سورة المائدة على الصيد في البحر كقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) البحر في التراث العربي BRAKET_R

المائدة آية 69 البحر في التراث العربي BRAKET_L

.
وذكر البحر في الآيات (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار) البحر في التراث العربي BRAKET_R

إبراهيم آية 32 البحر في التراث العربي BRAKET_L

(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) البحر في التراث العربي BRAKET_R

الإسراء آية 70 البحر في التراث العربي BRAKET_L

؛(وما يستوي البحران هذا عذب سائع شربه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماطريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضلهولعلكم تشكرون) البحر في التراث العربي BRAKET_R

فاطر آية 12 البحر في التراث العربي BRAKET_L

(وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) البحر في التراث العربي BRAKET_R

النحل آية 14 البحر في التراث العربي BRAKET_L

؛وقوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكماتكذبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، وله الجوارالمنشآت في البحر كالأعلام) البحر في التراث العربي BRAKET_R

الرحمن الآيات 19-24 البحر في التراث العربي BRAKET_L

.

البحر في تراثنا الأدبي:

تعاملالعرب مع البحر واستفادوا منه سواء قبل ظهور الإسلام أو بعده ودليلنا علىذلك الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد كانت على ظهر سفن وقوارب. وشارك بعد ذلكالعالم الإسلامي في حركة التبادل التجاري عبر البحار في مختلف العصور كماأولى علماء العرب المسلمين اهتماما ملحوظا بالكتابة عن البحر فقد كتبالجغرافي المغربي (الشريف الادريسي) في القرن العاشر الميلادي عن البحر فيكتابه (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وخصص الحسن الوزانحيزا من كتابه (وصف إفريقيا) للحديث عن صيد سمك الشابل بمدينة آزمورالمغربية الموجودة على ساحل المحيط الأطلسي.
ومنشواهد معرفة العرب بعلوم البحر وفنونه ما ذكره أحمد بن ماجد أن بعض مشاهيرالبحارة في العصر العباسي كانت لهم مؤلفات في الملاحة والإرشادات البحريةبقيت تستعمل إلى أيامه، منها كتاب ألفه من سماهم بالليوث الثلاثة وهم محمدبن شادان وسهل بن إبان والليث بن كهلان وقال أنه اطلع على نسخة من هذاالكتاب بخط إسماعيل بن حسن بن سهل بن أبان أحد الليوث الثلاثة يرجع تاريخنسخها إلى سنة ثمانين وخمسمئة من الهجر وقال إن: أحمد بن ضبرويه ألف فيعلم الملاحة قبل الليوث الثلاثة وانهم أخذوا وصف السواحل عن العالم(خواشير بن يوسف بن صلاح التركي) الذي كان يسافر إلى الهند في المئةالرابعة من الهجرة، كما أخذوا عن كل من التقوا به من البحارة العرب مايعرفه من بره وبحره.
وفي علم البحار والملاحةوصناعة السفن كانت جل كتب أحمد بن ماجد الملاح العربي المشهور (أحمد بنماجد شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد النجدي) ولد سنة 836ه، 1421م فيمدينة جلفار رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ورث فنونالملاحة عن أبيه وجده وأتقن علوم البحار وطور فيها ويعود الفضل له فيإيجاد الإبرة المغناطيسية، كما كتب نحو أربعين مؤلفا، من أشهرها: (الفوائدفي علم البحر) و(القواعد) و(حاوية الاختصار في أصول علم البحار)... ويقولفي أشعاره واصفا علمه الغزير بالبحار وفنون التأليف الملاحي:
فلو أرد تطويل كل فن
لم تطق النساخ تنسخ عني
قصدي الأصول في علوم البحر
لا قصدي الهرج وكثر الشعر
وبعد...فالعرب الجاهليون عرفوا البحر وركبوه في أسفارهم وتجارتهم، خاصة بينهموبين الحبشة. وفي العصر الإسلامي عرفوا البحر وعملوا به في التجارةوالملاحة بين الهند وغيرها من البلدان المفتوحة، وإلا كيف انتصر الأسطولالعربي الإسلامي على الأسطول البيزنطي في موقعة ذات الصواري في العصورالإسلامية الأولى ما لم يكونوا على علم بالبحر والسفن وصناعتها وقيادتها؟!

نقلاً عن مجلة الحرس الوطني، العدد: 308

****************

مع تحياتي الجغرافية

البحر في التراث العربي Others1

» البحر في التراث العربي
» مجموعة من المخطوطات النادرة ’’ خزانة التراث العربي ’’
» أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي ؛ الصراع بين التراث والحداثة من تجليات العقل المجتمعي
» كتاب انجليزي 2009 عن المغرب العربي يتحدث عن العلاقات المغرب العربي بشكل عام واهم شيء التسلح
» التراث