دولة الأمويين في الأندلس:
يقسم الحكم الأموي في الأندلس إلى ثلاثة عهود: الولاية – الإمارة- الخلافة، أما الولاية الأموية فقد بدأت بالفتح سنة 92-93 هـ / 711-712 م وانتهت بإمارة عبد الرحمن الداخل سنة 138 هـ- 755م، وأما عهد الإمارة فبدأت سنة 138 هـ وانتهت سنة 315هـ- 927م، وأما الخلافة الأموية فقد بدأت سنة 315 هـ- 927م وانتهت سنة 422 هـ- 1031م.
وأول وال على الأندلس عبد العزيز، وليها لأبيه موسى بن نصير، فثار به العسكر وقتلوه لسنتين من ولايته، وتتابعت ولاة الأمويين عليها تارةً من قبل الخليفة بدمشق، وطوراً من قبل عامله على القيروان، وكأن مقتل الوالي الأول فتح باب اللدد على مصراعيه فظلت هذه الولاية مضطرباً للنزاع والصدام، قل أن استقام فيها لوال أمر أو طال له حكم، حتى نيف عدد الولاة في هذه الفترة من الزمن على بضعة وعشرين والياً.
والسبب في ذلك مطامع الرؤساء وتضارب الأهواء، ونزعة العرب إلى العصبية الجاهلية الأولى، فقامت القيسية واليمنية تتنازعان السلطان، والقيسية واليمنية حزبان كان لهما في تاريخ الإسلام إلى أجل غير بعيد شأن خطير.
كان عامل الأندلس منقطعاً به في أقصى ثغور المسلمين، بعيداً عن قلب الدولة ومادتها، فكان لابد له من عصبة تؤيده في ولايته، ففزع كل وال من ولاة هذا العهد إلى عصبية، القيسي إلى القيسية، واليماني إلى اليمنية، والعصبية تقتضي الرجل أن ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، فخرج الوالي عن أن يكون حاكماً عاماً وأصبح زعيم عصبية يتصحب لذويه ويتحامل على أعدائهم، فكان من جراء ذلك أن انشقت الجماعة وهاجت الأحقاد وتقدمت الناس بأحزابها.
ومن طبيعة السياسة الحزبية أن تشتد معها العداوة وتستحكم البغضاء، وأن يتربص كل فريق بصاحبه وثبة يهتبلها منه فيدال له عليه، القيسي من اليمني، واليمني من القيسي، وكان الأمر بينهما دواليك، وهُزل الأمر حتى بلغ أن لا يكون للوالي حكم نافذ إلا على قومه، الوالي القيسي يطيعه القيسيون وينحاز عنه اليمانيون، واليماني يخضع له اليمنيون ويعصيه القيسيون.
وزاد هذا الخلاف أمر أمية بالمشرق وتضعضع أحوالهم فشغلوا عن قاصية الثغور بكثرة الخوارج، فبقي أهل الأندلس فوضى، فتن دائمة وولاية متداولة وحال لا تستقر من القلق.
واتفق جند الأندلس آخر الأمر أن يجعلوا الولاية في القيسية واليمانية مداولة بين الجندين، سنة لكل دولة، فقدم المضريون على أنفسهم سنة 129 هـ- 747م يوسف بن عبد الرحمن الفهري فاستتم ولايته بقرطبة، ثم وافته اليمانية لميعاد ادالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم، فبيتهم يوسف في قرى قرطبة بممالأة القيسية وسائر المضرية، فاستلحموهم وتمت الغلبة للقيسية في معظم أنحاء الجزيرة.
شغلت الفتن ولاة الأمويين عن الفتح فلم تنهض بهم همة إليه، إلا ما كان من فتوح عبد العزيز بن موسى، وعقبة الذي جاهد حتى بلغ سكنى المسلمين في أيامه اربونة وصار رباطهم على نهر ردونة، والهيثم بن عبيد الكلابي غزا مقوشة فافتتحها، والسمح بن مالك الخولاني نهض بالفتح إلى جنوبي فرنسا، وعنبسة بن سحيم مات وقيل قتل وهو على حصار تولوسة (تولوز)، وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي فتح قرقشونة وغيرها من جنوبي فرنسا، واستولى على آرل وليون وبزانسون وانتهى إلى تور، وعبد الملك بن قطن الفهري غزا البشنكش (البسكة)، وأكثر هؤلاء كان جهادهم في العدو أقرب بنتيجته إلى الغزو منه إلى الفتح.
وأما موقف الاسبان إزاء العرب فقد كان لفتح الأندلس أمر خطير كان له دوي كبير، فأصبح اسم العرب ملء الأسماع والأبصار، فانصدعت من جراء ذلك قلوب الاسبان وصغرت نفوسهم عن مقاومة العرب أول الأمر فلم يشجعهم هذا الخلاف الذي نجم بين العرب على منازلتهم وعهدهم بالفتح وببأس العرب قريب، وأخرى وهي أن العرب كانوا في حكمهم أعدل من الاسبان، فلم يكن ينال الاسبان الذين تفيأوا ظل الحكم الإسلامي وبقوا على نصرانيتهم شيء من الظلم الذي كان ينالهم أيام حكم أمرائهم المسيحيين، وللعدل روعة في النفوس وجلال حمل أولئك الاسبان الجبليين الذين اعتصموا بتلك الولايات الجبلية أن يتربصوا إلى حين.
ولما كثر بين العرب الخلاف واستحكم أمره، وكان قد مضى على الفتح ردح من الزمن أخذ الاسبان يتحيفون أطراف الملك العربي فتغلبوا على جزء من بلاد برشلونة، ثم على برشلونة، وهذا الذي استخلصوه من العرب إن لم يكن شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى الجزيرة، فهو شيء كبير بنفسه.
وأما عهد الإمارة الأموية فكان خير العهود التي عرفتها الأندلس العربية، فقد كان فاتحته عبد الرحمن الداخل وواسطته عبد الرحمن الأوسط وخاتمته عبد الرحمن الناصر: ثلاثة لا ندري أيهم أفضل من صاحبيه، فكانوا رجال أمية في الغرب غير منازعين ولا مدافعين، ومن رجالات الدهاء والحزم والسياسة في العرب.
وأخذت الأمور بعد عبد الرحمن الأوسط بالضعف، فاضطرب الأمن ونجمت قرون الفتن في ثغور الأندلس، واشتعلت الثورات في جوانبها حتى كادت تعمها لولا أن قيض الله لهذه الجزيرة عبد الرحمن الناصر ففقأ عين الثورة ونظم عقد الدولة وأعاد للجزيرة سيرتها الأولى.
وأما موقف الاسبان أمام هذه الفتن الأخيرة فقد قوت هذه الفتن من عزائم الاسبان وزاد في الأمر نصرة الإفرنج لهم، واستنصار بعض الأمراء بهم، فكثر اعتداؤهم على الأندلس العربية وعملوا على التدخل في سياستها الداخلية، ينصرون الأمير الأموي على أخيه الأموي، والعامل على أميره، فاسترجعوا من جراء ذلك قسماً كبيراً من ولاية قطالونية.
وأما الخلافة فقام في عهد المقتدر العباسي رجل الدولة الأموية عبد الرحمن الناصر وتسمى باسم أمير المؤمنين لأنه لم يعد هناك ما يراعيه رجال الدولة الأموية من أمر الخلافة الإسلامية ببغداد لانحطاط شأنها ولعب الفساد بها.
كان عبد الرحمن الناصر أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس، حارب الفرنجة مراراً وردهم على أعقابهم، واجتث جذور الفتن حتى استقامت له الأندلس في سائر جهاتها.
قال المقري: ووجد (الناصر) الأندلس مضطربة بالمخالفين مضطرمة بنيران المتغلبين فأطفأ تلك النيران واستنزل أهل العصيان واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيف وعشرين سنة من أيامه، ودامت أيامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك الناحية، وهو أول من تسمى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق واستبد موالي الترك على بني العباس _ فتلقب بألقاب الخلافة _ فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردد الصوائف في كل سنة فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطؤه قبل في أيام سلفه، ومدت إليه أمم النصرانية من وراء الدورب يد الإذعان، وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من روما والقسطنيطينية في سبيل المهادنة والسلم الخ
[1].
وبهشام الثالث انقرضت دولة بني أمية في الأندلس وصار الحكم لملوك الطوائف بها.