إدارة أوباما المتورطة في أفغانستان و باكستان شرعت تتحدث مبكرا عن خطة الخروج من الحرب و قبل انقضاء أسابيع قليلة على إرسال تعزيزات جيشها نحو ميادين المعارك في هلمند و حيث تشير المعطيات المنهجية إلى مأزق كبير على الأبواب لا يقل خطورة عن مأزق الهند الصينية حيث قفزت الولايات المتحدة من الورطة الفيتنامية إلى التدخل في لاوس و كمبوديا و غرقت في وحول المستنقعات الدامية .
تكفي للدلالة على حقيقة الفشل المتجدد في أفغانستان رمزية ان تفرض الحرب العاثرة على الإدارة الأميركية طلب التسهيلات الروسية بعدما كان أحد أهداف السيطرة على أفغانستان تحقيق تغيير في البيئة الإستراتيجية الإقليمية لمحاصرة فرص نهوض القوة الروسية بعد نهاية الحرب الباردة و فرض التفرد الأميركي في السيطرة على مشاريع أنابيب النفط و الغاز العملاقة العابرة للقارات و اليت تمثل أفغانستان ممرا إجباريا لها .
أولوية الحرب الأفغانية التي تتوسع في نطاقها و أعبائها العسكرية و المالية بصورة سريعة تعجل في الانتقال نحو تطبيق بنود وثيقة بيكر هاملتون المتصلة بالعراق و بمنطقة الشرق و خصوصا بالصراع العربي الإسرائيلي و من هذا المنطلق يمكن فهم التعجيل الأميركي مؤخرا بالتحرك السياسي و المشهدي في المنطقة و مساراتها السياسية .
على خطى إدارة جورج بوش سعت الإدارة الجديدة لتجزئة ملف الاحتواء في العراق و أبطات الخطوات نحو سوريا و إيران بقصد اختبار التكيف الممكن بأقل التكاليف السياسية و الإستراتيجية على المصالح الأميركية و على إسرائيل القلقة من تبعات ما بعد الخروج الأميركي من العراق و إدارة أوباما بل المؤسسة الأميركية الحاكمة تضع حماية إسرائيل و تحصين موقعها في صلب السياسة الأميركية الجديدة و تبدو إدارة أوباما مهتمة بما يدعوه بعض المحللين و الخبراء الأميركيين و الإسرائيليين بطمأنة إسرائيل أو بتقديم الضمانات لإسرائيل و هو ما يجري تحت ضغط القلق الاستراتيجي الإسرائيلي الناتج عن ثلاثة أسباب رئيسية :
السبب الأول هو ان الحراك العراقي الداخلي و من خلف صخب التناقضات المذهبية و القومية التي سعرها الاحتلال الأميركي خلال السنوات الأخيرة سيقود في حصيلة الأمر إلى إنتاج تركيبة سياسية عراقية واقعة موضوعيا و استراتيجيا على خط الصراع العربي الإسرائيلي وفي الحضن السوري الإيراني و هذا ما توحي به حيوية التطور السياسي و حقائق الجغرافيا السياسية في المنطقة و إسرائيل تخشى ان يكون انخراط العراق بقدراته الهائلة في جبهة الصراع العربي الإسرائيلي هو تتمة الأحداث و تتويج الحروب التي دبرتها الحركة الصهيونية في المنطقة خلال ستين عاما لتمنع مثل ذلك التحول الخطير في ميزان القوى عندما يتحول العراق جبهة خلفية و عمقا استراتيجيا لسوريا و لبنان و فلسطين .
السبب الثاني و هو ان الحوار الأميركي السوري ينطلق من التسليم المسبق بدور سوريا الإقليمي الذي انطلقت الغزوة الأميركية قبل سنوات من مبدأ شطبه و باعتباره جزءا من الماضي الذي لا عودة إليه و هذا الحوار الذي ينطلق بالأولوية العراقية في الحساب الأميركي ستكون نتائجه صياغة تفاهمات أميركية سورية تعزز مكانة و دور سوريا في المنطقة و هو ما يعني بداهة تقوية النفوذ السوري و الاعتراف بمترباته في الساحتين الأشد إثارة للقلق الإسرائيلي على امتداد الأعوام الثلاثين الماضية أي لبنان و فلسطين و حيث سوريا هي قوة الاحتضان و الرعاية و الدعم لقوى المقاومة اللبنانية و الفلسطينية كما يعلم الإسرائيليون أكثر من غيرهم .
السبب الثالث و هو ان المعادلة التي سوف تنشأ عن الحوار الأميركي مع كل من سوريا و إيران لاحتواء الفشل الأميركي في العراق لن تسمح بتكريس المواقع الإسرائيلية التي استحدثت في العراق تحت غطاء الاحتلال الأميركي فقد تركز الجهد الإسرائيلي الاستخباراتي و الاقتصادي على العمل لتكوين قواعد نفوذ في البيئة الكردية و عبر تغذية مشروع انفصالي يشكل منعه و التصدي له حافز التعاون الوثيق بين الدول الأشد فاعلية في الجوار العراقي : سوريا و إيران و تركيا و هي الدول الفاعلة التي سيتركز الجهد الأميركي على بناء سقف الاستقرار العراقي بالتعاون معها و بأخذ توجهاتها و تحفظاتها في الاعتبار .
حروب التدخل الجديدة
الجمع بين استعمال العصا الغليظة و أساليب القوة الناعمة أو القوة الذكية ليس جديدا في الاستراتيجيات الأميركية لكنه يمثل في الوقت الحالي علامة فارقة لإستراتيجية أوباما التي تنطوي على حروب تدخل من طراز جديد تقوم على استعمال ثورة الاتصالات و وسائل الإعلام المتعددة الأشكال و الأنواع و بالترابط العضوي مع الأنشطة و المنظمات المخابراتية المتخصصة في إذكاء الصراعات و التناقضات الداخلية التي يتم استثمارها في توليد التوازنات المناسبة لخدمة المصالح و المخططات الأميركية .
تقليديا كان من البديهي ان تعتمد السياسة الأميركية المتجهة صوب الحوار مع سوريا و إيران على مبدأ المفاوضة تحت سقف استمرار الضغوط الناشئة عن الحصار وكتلة العقوبات المفروضة و المتراكمة خلال عقود من الصراع و التناقض و لكن الأحداث الإيرانية الأخيرة و من بعدها الأحداث الصينية تشير إلى تصميم أميركي على مواصلة حروب التدخل و لكن من خلال الدعم المالي و الأمني و الإعلامي و السياسي لجماعات معارضة للسلطات التي تخاصم السياسة الأميركية بهدف إضعافها و استنزافها و التأثير على معادلات التفاوض المحتمل معها .
في النموذجين الصيني و الإيراني قامت الإستراتيجية الأميركية للتدخل على تحريك مجموعة من خطوط الحركة و التأثير في مجرى الأحداث التي لم تندلع بالضرورة وفقا لمؤامرة محكمة بالطرق البوليسية و هو أمر وارد كاحتمال في طريقة عمل جهاز متقدم و متطور كالمخابرات الأميركية بالأصل :
أولا وسائل الإعلام التقليدية الموجهة و الناطقة باللغات المحلية و هذا ما يشمل محطات الإذاعة الموجهة عن بعد أو من مناطق قريبة جغرافيا و القنوات التلفزيونية الفضائية و وكالات الأنباء العالمية و الإقليمية التي سخرت لشن الحملات و إقامة نوع من تحالف إعلامي دولي إقليمي يجري توجيهه بالشعارات و المواقف و الإيحاءات و الأخبار التي تخدم الغاية السياسية المحددة .
ثانيا وسائل الإعلام الإلكترونية باللغات المحلية و الأجنبية و شبكات الاتصال الحديثة بواسطة الهاتف الخلوي لتحريك الدعاية و التحريض و لتنظيم و اصطياد العناصر الناشطة التي يتم تجنيدها لقيادة التحركات و تفعيلها ميدانيا .
ثالثا الجماعات الإرهابية التي تم تحضيرها مسبقا و قدمت لها المساعدة اللوجستية و المالية اللازمة لتكون على استعداد لتنفيذ عمليات خاصة تخدم مخطط التدخل الأميركي .
رابعا الجماعات المنشقة المقيمة في الولايات المتحدة و أوروبا و تحويلها إلى قوة تحرك منظمة تسهم في تصعيد الحملات السياسية و الإعلامية من الخارج و تعمل بنشاط للدخول على خط المجموعات المعارضة الموجودة داخل البلدان المعنية .
خامسا قيادة الولايات المتحدة لحملات سياسية و دبلوماسية و إعلامية تواكب التحركات الميدانية بالشراكة مع دول الحلف الأطلسي و تحريك الأمم المتحدة لاستكمال حلقة الضغوط حيث يكون ذلك متاحا أو اقتصار الاستثمار السياسي على المعادلات الجديدة المفترضة في تكوين مناخ التفاوض السياسي بين واشنطن و خصومها .
غالب قنديل
السبت أكتوبر 24 2009, 01:46 من طرف ocean